منصة المشاهير العرب مرخصة من الهيئة العامة للاعلام المرئي والمسموع السعودي , ترخيص 147624
هذا أبي

هذا أبي : حاضر معي في الصحو وفي المنام، خياله يحدق في زوايا روحي

31/ أغسطس /2020
avatar admin
157
0

أبي ما زال حياَ وكبيراَ ، دائماَ أراه من شقوق الغياب، عذباَ طرياَ

 

رمضان بن جريدي العنزي

 

 

وجوه كثيرة تختزنها الذاكرة، لكن بعض الوجوه تحتل الذاكرة بقوة رغم ضخامة ملامحها، وجه أبي والذي يخصني يمتلك وجداَ عملاقاَ ، ليس في الخوف والقلق علي، لكنه أيضاَ في الحب، لقد ماتت امي رحمها الله واسكنها فسيح جناته وأنا لم أكمل السنة الواحدة بعد ، لكن أبي كان لي حينذلك بمنزلة الأم والأب معاّ ، وجه أبي يسكن جوانحي دائماَ ، أغلق عيني لأراه والذي وان توارى عني هو الآخر إلا أنه لا يغيب عني مطلقاَ، صورته تبدو أمامي كاملة ، حتى أنه يقبع في ضلوعي، ويسكن القلب والذاكرة بشكل دائم، كالفراشة أطوف حول ظله…

 

ذكرياتي معه مضيئة صارت طيفاَ لا يفارقني ولا يلين، وجه أبي البيض المشرب بالحمرة حاضر معي في الصحو وفي المنام، مبعثراَ هو في قلبي، يسكن الروح بثبات، خياله يحدق في زوايا روحي ويزورني في الصحو وفي المنام، لقد عاصر البرد القارس الذي ينخر العظم، ويصيب الجسد بالعطب، عاصر الليل الأسود المضني، والريح الباردة التي تهب محدثة صوتاَ مهيباَ، لقد جاس حينها الصحاري شرقاَ وغرباَ، زفير لياليها وأيامها المغبرة والباردة واللاهبة، مرابعها واحوالها ومفاجآتها، وكيف كان الليل والغارات لحظات متوقعة في أي حين، الصعاليك والحنشل ولصوص الليل، والنهب والسلب، وكيف تمر عليهم وعلى (حلالهم) أياماَ لا يذوقون فيها الزاد والماء، حتى الأفاعي ما أن تلدغ الإنسان حتى تحيله فحماَ أسوداَ ثم يموت، العقارب كذلك، فجوة الصمت في الليل المترع بالخوف والتوجس والوجل، كان أبي يحفظ بعض القصائد ويجيد سرد الروايات، كان سخياَ كريماَ، لا يناوش احد، ولا يستعدي أحد، وليس له مطمع في حق أحد…

كان صبوراَ، قضى جل عمره في الصحراء مع أبله وغنمه، رسيماَ كان، سلس الكلام، ومقل في الإسهاب، كلامه كرسائل مختصرة، لكنها مفهومة، في حديثه طراوة، وفي صوته عذوبة، حتى أبله وغنمه تطرب لصوته، عرف عند من عاصره بالأمانة والنزاهة والخلق، مرة قال لي واعظاً كعادته بين حين وحين:

 

” أعلم يا بني بأنني أبن من ولدوا تحت الشمس، وعلى سفوح الرمل، باحثين عن غيمة واعدة، وأرض خصبة وغدير ماء، وعشب وكلأ، أفراحهم كانت هشة كأفراح الحمام حين يؤمن نافذة يبني عليها عشه….

وأعلم يا بني أن الحياة معركة منهكة ومتبعة لكنها سريعة مثل قطار لا ينتظر المتأخرين، لاتياس ولا تصاب بالإعياء والذبول ولا تجتر الذكريات المؤلمة، أعلم بأن الدنيا لا تجيء دائما كما تشتهي وكما تحلم وتريد ، تجاهل انطلق واطرد من فضائك مدارات الخريف والرماد فهناك ووراء كل أفق شمس ساطعة رغم كثافة الغيوم، الحياة يابني لا تعارك الأجساد الرخوة اللينة التي تشبه الرمل، لأنها تتعثر بسهولة ويسر ، الأقدام اليابسة المخشوشنة هي التي تمشي بالدروب الوعرة، الحياة ليست كلها ربيع وحدائق غناء ،لكن لها رياحها الحارة العاتية، الحياة مثل السيول تختط الأخاديد بقوة جريانها ودفعها، ومثل رياح السموم تزوم وتزوم وتصفر، ومثل السحت إذا ناءت بأثقالها أسقطها المطر”

الحياة يابني كما فيها وورد ملونة وفراشات ونحل، فيها أيضاً دود وعناكب وعثث، فيها حدبات وتعاريج وسراديب عتمة وظلمة، فيها ضحكات وفرح، دموع وشرود، ضنى قلق وتعليق، عقل وجنون، شيطنة وحكمة بالغة،ذئاب وثعالب ،قلوب بيضاء وأرواح طاهرة، الحياة يابني ليست كلها ريحانة وقطعة سكر ،بل فيها الشوك والعليق والحنظل …

 

الجياد فيها لا تتشابه وكذلك الرجال وحتى النساء لايشبهن بعضهن البعض، فيهن النافرة الجامحة وفيهن العاقلة الرااجحة.

يا بني لا تدس راسك في حجرك وتنطوي، واصل الركض في المدارات كلها ، لا تقنط أبحث عن زهرة في الليالي الكالحة ، تمسك بالطيبين الأنقياء، الضوء ينعكس على المرايا، فاجعل أعمالك وأقوالك وسلوكك مثل المرايا العاكسة ، المواقف يابني وحدها تكشف الأقنعة، والتعامل المباشر مع الناس هو من يكشف حقائقهم تسقط الأقنعة.

كن حذراً لا تتلون ولا تتذبذب ولا تبيع مواقفك ومبادئك، لا ترهق نفسك بالبحث عن آراء الناس فيك، لأن آراء الناس لاتعبر عن حقيقة مبادئك وقيمك والتي أنت تعرفها جيداً، تأكد بأن الذي يشي بالآخرين ، الوشاية يابني خلق ذميم وسلوك مشين وعمل مقيت، لاتؤذ غيرك ولا تخدش مشاعر أحد، الأصدقاء الحقيقيون لا يقاسون بالذي يقولونه أمامك بل بما يقولونه في غيابك ويحدثون به الناس عنك، لاتزرع أبداً بذرة في أرض جدباء غير خصبة لأنها لن تنبت ولن تجني محصولها مطلقاً …

 

جل الطرق بها ظلمة ووحشة وتوجس وترقب وبها مصدات ومعاقات منحنيات ومرتفعات أحجار وأتربة ، إلا الطريق إلى الله فانه معبد ومستقيم و واضح المعالم والسغر فيه شيق ممتع ومريح ونتائجه مبهرة كبيرة وعظيمة ولا تخطر على قلب بشر…

 

كل العلاقات قاصرة وتشوبها شوائب، إلا علاقة الإنسان مع الله فانها أسمى واقوى وأنبل واشد   وأمتن وأدوم ، اختر أصدقاءك بدقة فليس كل ما تعرفه بصديق، ابتعد عن المعارك الخاسرة والجدال العقيم، الأوقات العصيبة الناس ، ثوابتهم ومعادنهم …

 

الحياة يا بني تصبح أجمل أن أبصرتها بعين الأمل، أجعل التفاؤل دائماً عنواناً لحياتك وأن الغد سيكون رائعاً وجميلاً، وأن وراء كل شتاء ربيع الحياة يا بني تبدأ بالصراخ ، وتنتعي بالوصية لذا لاتركض في هذه الحياة كالمجنون، تحاول أن تجمع الشمس والقمر بقبضة، وأن مئة عصفور بطلقة واحدة، تزرع سنبلة وتريدها في اليوم التالي ألف سنبلة….

أحذر يا بني بعض الأشخاص الذين يتوشحون بثوب الوداعة، فلربما يحاولون المرور إلى دهاليز الدناءة، تعلم بشكل يومي ففي كل يوم جديد خبرة جديدة، وأعلم أن الحياة مهما تزينت لك فهي فانية وليست خالدة، والناس غيها عابرون إلى الحياة الخالدة.

عندما تأخذني ذكرياتي مع والدي، كأني أحتاج ميزان لأزن روحي بين اليقظة والسهو، مثل نسمة هواء عليل تلامس جسدي، ارسمه عندها قوساَ ملوناَ أخذه معي نحو تلك المضارب التي عاشها أبي بكل تفاصيلها وصورها وأطيافها، أتذكر ذات شتاء وجه (فضة) التي داهما وزوجها (غربي) فيضان الشعيب، وكيف هرع أبي لأنقاذهم مخاطراَ بحياته….

الذكريات مع والدي تأتيني تباعاَ كبرق سريع، أسرح دائماَ في فضاء الذاكرة الفسيح بين هضابها وشعابها، أوديتها والتلال، أجتر الماضي إذ يبدو المشهد أمامي كلوحة متقنة الرسم واللون.

شغفي بأبي ما زال حياَ وكبيراَ، دائماَ أراه من شقوق الغياب، عذباَ طرياَ، وهو الذي تعب طويلاَ من أجلنا، كافح وحل وأرتحل، ومن فرط حبي له أهرب دائماَ منه إليه، لا أستطيع نسيانه، وكلما جاءني طيفه ، جاءتني الدهشة، وكيف وهو الذي توسد الرمل من أجلنا وأرتحل كي يؤمن لنا ما نصبو إليه قدر ما يستطيع.

رحمك الله يا أبي، وأجزل لك المثوبة، وأسكنك فسيح جناته

 

عن الكاتب : admin
عدد المقالات : 11014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.