“جلسة غريبة، لا تمت إلى الأعراف النيابية أو النظام الداخلي أو الدستور العراقي بصلة”. بهذه الكلمات عبّر تحالف 188 في العراق عن رفضه الشديد لمشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، مؤكّداً أنه بصدد اتخاذ جملة من الإجراءات القانونية والدستورية لمواجهته، بعدما تمّ تمريره في جلسة مجلس النواب المنعقدة في 20 كانون الثاني/يناير الماضي، واصفاً البرلمان بأنه بات منصة “لتكريس هيمنة التحالف الحاكم الذي يسمى تحالف إدارة الدولة بدلاً من أن يكون مؤسسة تحمي الشعب وتصون كرامته”.
ينص تعديل المادة الثانية من القانون، والذي أثار موجة من الجدل لم تنته بعد، على منح رجال الدين سلطة الحاكم الشرعي في عقد القران، ما يفتح الباب أمام عقد زواج الفتيات قبل بلوغهن عامهن الـ18. ويمكن أن يعقد القران في سن الـ9 سنوات، بناءً على مفهوم البلوغ الديني، سواء كان الزواج دائماً أم مؤقتاً.
“نرفض هذه التعديلات طبعاً. فقد أريد لها أن تنطلق من منطلق طائفي تفريقي، والتقليل من حقوق المرأة العراقية وشأنها في الحياة العامة الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما أنها محاولة من محاولات الهيمنة على ما تبقى من مدنية الدولة العراقية”، يعلّق حسين النجار، عضو تحالف 188 على التعديلات، في حديث لـ”النهار”، واصفاً الصراع بأنه “صراع فكري واجتماعي وطبقي، بين أقلية حاكمة تريد أن تهيمن بأفكارها الأيديولوجية الفكرية الطائفية على غالبية المجتمع العراقي، الذي عاش لسنوات في ظل هذا القانون ولم يثر إلا مشاكل بسيطة يمكن أن تحلّ بطرق أخرى. إلا أن هذا التعديل جاء لحرف مضمون الصراع لإيهام الناس أن هناك خلافات مجتمعية، وهو ما يعتبر غير صحيح”.
قانون الأحوال الشخصية الجعفري
أما عن تفاصيل التعديل، فيقول النجار إنه لم يحصل تغيير شامل لمجمل بنود القانون، إلا أنه تاريخياً كانت هناك محاولة لتشريع قانون سمّي “قانون الأحوال الشخصية الجعفري”، وهو مسودة تنظم الأحوال الشخصية لصالح الأشخاص الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية الجعفرية، وحصلت الكثير من الاعتراضات على هذا التشريع. لكن الأمور وصلت إلى تغيير مواد بسيطة فقط، مثل كيفية اختيار المذهب الذي سيكون فيه عقد الزواج وما يترتب عليه من تداعيات أخرى، وبالتالي هنا الاعتراض على اعتبار أن القانون النافذ ينظم قضية المذهب عند الزواج.
ينعكس هذا الأمر على القضايا الأخرى المتعلقة بالإرث، والطلاق، وحقوق المرأة عندما تريد الخلع، وحقوقها في الحضانة والنفقة وغيرها. وهنا مكمن الاعتراض، إذ إن كل طائفة فيها اختلاف في وجهات النظر على اعتبار أنه اجتهاد، وليس نصاً معمولاً به، وهو الأمر الذي حلّه القانون 188 من خلال لجنة من مختلف المذاهب والشخصيات الدينية في ذلك الوقت، وتوصّلت إلى اتفاق لم يثر الكثير من الخلافات والإشكالات، وفيه احترام متقدم لحقوق المرأة مقارنة بدول أخرى في الشرق الأوسط.
وبحسب النجار، هذه التعديلات تنافي التعديلات الدستورية، وأهمها المادة المتعلقة بالمساواة بين جميع العراقيين على اختلاف الجنس والعرق واللون، وكذلك التدخل في شأن القضاء العراقي الذي من المفترض أن يكون مستقلاً لا سلطان عليه. أما الآن فقد أجبرت التعديلات القاضي على طلب المشورة من رجال الدين، فضلاً عن ذلك تدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية.
مشكلة واحدة لا تزال موضع خلاف
تحالف “نازل آخذ حقي” كان من بين الرافضين أيضاً للتعديلات القضائية. ويفسّر رئيس التحالف مشرق الفريجي لـ”النهار” ما حصل بعد حملة الاعتراضات الشرسة، قائلاً إنه تم تعديل بعض الأشياء منها المفعول الرجعي وحق الاختيار عند الزواج،
إلا أن مشكلة واحدة لا تزال موضع خلاف وهي الحضانة التي حدّدت بسبع سنوات، وهو سن لا يزال يحتاج فيه الطفل إلى والدته، إلى جانب تحديد سن الزواج “على الـ15 عاماً أو أقل بلا أي شروط كما كان في السابق”.
أما عن النتائج المجتمعية فقد تكون كثيرة، يذكر منها الفريجي “التفكك الأسري نتيجة الشرخ الواحد داخل العائلة، وجدلية هذه التشريعات التي يمكن أن تؤدي إلى تباعد كبير ضمن أفراد العائلة الواحدة”.
هل تقوم الجمعيات الحقوقية في العراق بأي مبادرة بعد إقرار التعديلات الجدلية؟
يؤكّد الفريجي أنهم في التحالف ينوون بعد كتابة المدونات وإنهاء هذا الملف أن يقوموا بحملات أخرى “للتعريف بضرورة أن يكون الزواج على القانون الأصلي، بحيث أن القانون شرّع الاختيار بين القانون الجعفري وقانون الأحوال الشخصية السابق، والذي نريد له البقاء كما هو، والحملات تتضمن مواد لتوعية الناس على ضرورة المحافظة على حقوق النساء”.
وعن علاقة التعديلات برغبة رجال الدين في زيادة سلطتهم، قول الفريجي: “رجال الدين أو أحزاب الإسلام السياسي بشكل أدق كانوا يريدون كسب الجمهور بهذا التعديل. لكن ما حصل كان مختلفاً، فقد خلقوا انقساماً في الوسط المجتمعي، وأكثر من نصف المجتمع بات يرفض هذه التعديلات ولا يزال مستاءً رغم التغيير في التعديلات بعد إقرارها”.
ويصف الإجراءات التي اتخذها البرلمان لتمرير التعديلات بأنها “غير ديموقراطية”، إذ تم تمرير 3 قوانين في الجلسة نفسها “على طريقة المساومات بين الأطراف السياسية كافة، كي تصب الأمور بالنهاية في مصالحهم جميعاً وليس في مصلحة الشعب العراقي”.
وهو ما أضافت اليه سارة جاسم، الناشطة النسوية، في حديثها لـ”النهار”، أنه “من الواضح أن هذه التعديلات تمنح رجال الدين سلطة أكبر في تنظيم شؤون الأسرة، ما يهدد مدنية الدولة ويؤدي إلى تراجع استقلال القضاء، بدلاً من تعزيز سيادة القانون وضمان حقوق المرأة والطفل، تفتح هذه التعديلات الباب أمام تفسيرات دينية مختلفة قد تكرس عدم المساواة القانونية بين الرجال والنساء. إن منح المرجعيات الدينية سلطة تحديد سن الزواج وفقاً لاجتهاداتها الخاصة، دون مراعاة التشريعات الوطنية والمعايير الدولية، يعزز من نفوذ المؤسسات الدينية على حساب حقوق الأفراد، وخاصة النساء والفتيات”.
“انسجام مع الدستور”
في المقابل، دعم الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم تعديل قانون العفو العام المثير للجدل، داعياً في بيان رسمي مجلس النواب إلى “المضي بالقراءة الأولى لقانون الأحوال الشخصية”، موضحاً أن “مشروع القانون ينظم أموراً تتعلق بالأحوال الخاصة بكل مذهب أو دين ولا يلغي القانون النافذ… وهو انسجام مع الدستور الذي ينص على أن العراقيين أحرار باختياراتهم وبما لا يتعارض مع ثوابت الشريعة وأسس الديموقراطية”.
ايا يكن، فقد أثار القرار جدلاً غير مسبوق في العراق، ترافقت مع إطلاقه عشرات التعليقات الرافضة لإقرار التعديلات، تقابلها تعليقات كثيرة رأت فيه خير قرار سيساهم في صلاح المجتمع، ومن بين التعليقات كتب حساب عبر منصة “إكس” إن هذه التعديلات تمثّل انتصاراً للحق: “ألف ألف مبروك لانتصار حقّ المظلوم، ألف مبروك لكل أب انظلم”.
تعليق آخر كتب: “إذا كانت الأم حنونة لهذه الدرجة على الطفل وتريد إبقاءه بجانبها، لماذا لا تتحمّل هي نفقته؟”.
وقد انتشر مقطع فيديو عبر مواقع التواصل في الأيام الأولى من شهر شباط/ فبراير لطفلة تتعرّض للعنف والتحرش الجنسي داخل سيارة، على يد رجل مسن، يُقال إنه جدّها. وسرعان ما أثار المقطع غضب نشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقالت ناشطة إن “حماية الأطفال ليست خياراً، بل واجب أخلاقي وقانوني يُفترض أن يكون فوق كل اعتبار. وهذا المقطع لمن صوّت لقانون الأحوال الشخصية”.
“الزواج دون قيد أو شرط”
التعديلات المقترحة تثير مخاوف عميقة بين الناشطات النسويات، وهو ما تؤكّده الناشطة جاسم لـ”النهار”، وتضيف بأن أبرز البنود المثيرة للجدل هي المتعلقة بالسماح بزواج القاصرات والزواج خارج المحكمة دون قيد أو شرط. وتقول: “هذه التعديلات قد تمنح سلطة تقديرية لرجال الدين والمحاكم الشرعية لتحديد سن الزواج، ما قد يؤدي إلى انتشار حالات الزواج المبكر والإجباري، وهو ما يتعارض مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق، مثل اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، وسيساهم بضياع الفتيات والحرمان من التعليم واللجوء لمصادر رزق دنيئة تحط من مكانة المرأة، وكذلك فقدان صحتها التي ستترتب تبعاتها بعد الحمل والولادة بسن مبكر، وكذلك المتاجرة بهن من قبل ذويهن في زيجات المتعة لكسب المال، وغيرها من الأمور التي ستفاقم الوضع الاجتماعي السيئ وتفشي الجهل والأمراض، وضياع نسب الأطفال بسبب الزيجات من صغيرات السن خارج المحاكم، والتي يصعب توثيقها”.
وعن التحديات التي تواجه الناشطات النسويات في عملهن الحقوقي، تجيب جاسم بأنها كثيرة، منها “البيئة السياسية والدينية المحافظة التي تعارض التغيير، والتضييق على حرية التعبير والعمل الحقوقي، فضلاً عن التهديدات الأمنية المباشرة التي تطال المدافعات عن حقوق المرأة. كما أن ضعف التمثيل النسوي في البرلمان وضعف دورهن كنساء ممثلات عن المرأة وضعف إيمانهن بالقضية وعدم وجود
دعم كافٍ من الجهات الحكومية، أمور تجعل من الصعب مواجهة هذه التعديلات بشكل مؤثر”.
وتدعو جاسم إلى الاهتمام بقضايا النساء، فهي “ليست مجرد قضية نسوية، بل مسؤولية مجتمعية لحماية الأجيال القادمة من الاستغلال والانتهاكات. يجب أن يكون هناك ضغط مستمر من المجتمع المدني والناشطين والناشطات والجهات الدولية لضمان عدم تمرير هذه التعديلات، والعمل على إصلاحات قانونية تعزز حقوق المرأة وتحقق المساواة”.