قاتل الله المرض يا أبي :
عندما يئن الأب تهون الحياة
لا تضيعوا أوقاتكم بعيد عن أباكم .. حتى لا تندموا
غدا قريب …
الأب الصالح صديق أبنائه وسجادته
قالوا إن الأب هو الشخص المسؤول عن الأسرة ، واقول هو روح الأسرة وقلبها النابض بالعطاء ، هو كل شيء جميل وبهي في هذه الحياة ..
هو الموجه والداعم والصديق في أوقات الأزمات والطبيب في ساعة المرض والوحيد الذي يتمني ان يكون أبنائه أفضل منه ، هو البسمة هو الفرح هو الحياة …
الأب الصالح صديق أبنائه وسجادته قد تنشغل في حياتك ولا تنتبه لتغيرات التي تطرأ على ملامحة ، وقد لا تنتبه لما يعاني , لأن الأب في حضرة الأبن يكون في أجمل حالاته قدر المستطاع ..
لا تضيعوا أوقاتكم بعيد عن والديكـم .. حتى لا تندموا يوما ولا ينفع الندم فانتكاسة كبار السن سريعة وغير متوقعة فأحرصوا على ابائكـم …
سوف أحدثكم عن أبي الذي عاش في عصره حياة قاسية ومتعبه ومجهدة تحمل الكثير مما لا أود ذكرة لخصوصيته فصبر وعرف عند الاقرباء بــ أبو صبار قبل ان يتزوج ..
عاشا متأملا محبا لأخويه الاكبر منه سنا مطيعا لهما .. وكانت البوصلة في ذلك العصر لسكان الشمال تشير الى المنطقة الشرقية والوسطى لتوفر فرص العمل , لذا غالبية الشباب يتجهون للوسطى أو الشرقية بينما كبار السن يعشقون الحياة والحرية حيث الصحراء الشاسعة والمعطاءة …
وما أجمل ان يكون لك هدف في الحياة حسب امكانيتك وقدرتك , وكان ابي يحلم ان يلبس البدلة العسكرية وشماغ الحرس الوطني …
وذات مساء ودع الحلال وتركنا مع أمي في بيت خالي ونس الغرب في الحدود الشمالية عرعر في بيت من الطين …
وعاد ليخبرنا بكل فخر وزهو أنه التحق بالحرس الوطني وتوجهنا بسيارة بيجو من عرعر إلى المنطقة الشرقية ثم الى الرياض …
لا اريد ان اتحدث عن صعوبة حياة والدي في شبابة الا انه معروف بشاعريته وأنين كلماته الشعرية …
وهو الان بجانبي أنظر اليه ثم الى السماء لأناجي الله في علاه ربي احفظ أبي ربي مَن عليه بالشفاء ..
أجمل لحظات حياتي انا واخواني عندما ملامح ابتسامة على محيا أبي الغالي الحنون ..الذي انهكه المرض ..
الحياة رحلة قصيرة وان طالت ولكن فيها من الاحلام ما يبهج ومن الاماني ما يسعد ومن التطلعات رقة الاماني وكثرتها ومن هذه الاماني اننا نرى أبي واقفا متحدثا مناديا بـاسمينا يا ترى هل تعلمون حجم هذي الامنية لو تحققت …
ونحن جميعا ندرك استحالت ذلك وصعوبته ولكننا نتحدث به فالحياة لا طعم لها بلا أمل …
قاتل الله المرض يأتي فجأة .. قاتل الله المرض كم هو مؤلم وموجع تحت أي مسمى تنطقه هو بالفعل داء وعلة وسكاكين تغرس أنيابها في الاجساد البشرية المتعبة والمنهكة ..
أنه أذى يستوطن الانسان ويقيده ويبعده عن عالمه الجميل ويعيقه عن تأدية واجباته الدينية في غالب الحالات ، انه ضيف مزعج يمارس غطرسته فيغير تركيبة الجسد والفكر بل ويعيق الخطأ ويلجم اللسان ….
الساعة الثانية فجرا وانا بجانب والدي المريض والمنوم في المستشفى أبي لا يعرفني ولا يتكلم ولا يأكل ولا يستطيع الحركـة …
يحاول الاطباء بلطفهم والتمريض بإنسانيتهم ان يعملوا شيئا يخفف الوجع يجربون الادوية ويحرصون على التحليلات والقياسات وتغيير وضعية نومه ..!
العاملون في القطاع الصحي هم أقرب من الجميع للرحمة والتسامح يقابلون الضجر بالابتسامة والأنين بالعطف …
المرض (يُشار إليه أحيانًا بـ اعتلال الصحة أو السقم)
ولكني أعتبره عملاق خفي يقيد الانسان ويشل حركته و يأكل من جسده ويغزو فكره ويأخذه من عالم الاحباب والاصحاب إلى عالم ينشغل به بنفسه وينسى كل شيء الا المرض …
أبي كان فقيرا ثريا
أبي كنت رجلا عطوفا (علينا ) وبنا رحيم ربيتنا على سمو الاخلاق وغرسة فينا فضائل المكارم لم تك يا أبي ثريا ولكنك كنت في عيون أبنائك واقربائك ومعارفك أغنى وأثرى أهل الأرض قاطبة ، نعلم انك لا تملك ماديات الحياة ولكنا نعلم انك تملك قيم العروبة …
كنا في شغف من العيش سكنا معك بيت الطين في الحدود الشمالية ثم تم تعينة بالرياض فاشترينا بيت شعر وجئنا لنمازج بين العيش في بيت الطين والشعر ، والراتب الشحيح والوضع غير المريح ….ولكن الرضا هو ما تنبض قلوب أسرتنا …
تطورت أمور الوالد ( شافة الله ) فأشترينا غرفتين من الخشب ( صندقة ) ومطبخ من ( الزنك ) وسجلنا في المدرسة الابتدائية بشارع الاحساء مدرسة جرير الابتدائية …
وواصلنا دراستنا حتى حصلنا على أعلى الشهادات والفضل لله ثم له ، الان في بحبوحه من العيش الكريم الا ان يا أبي مرضك اصابنا في مقتل انا واخواني وخواتي …
ابي خدم وطنه جنديا فدائيا لدية ملف من الأوسمة والانواط وشهادات الشكر ولكنها لا تمثل بالنسبة لي أهمية لأني أعرف ابي جيدا رجل نبيل وطيب القلب تقلد أوسمة البساطة واستولى على قلوبنا …
عام 1395 هـ جئت راكضا لمجلس الوالد وهي صندقة تبعد عن بقيت الصنادق عدة أمتار.. فهالني بكاء أبي ونحيبه والراديو يذيع الشيخ عبدالله خياط وهو يتلو القران الكريم رجعت لأمي واخبرتها عن بكاء أبي فقالت ( يا وليدي ) فيصل مات تقصد الملك فيصل …هذا هو أبي ..
كنت ارى في والدي الشباب والعنفوان والقوة ولم اتصور يوما ما .. أنه يصبح بهذه الحالة اتذكر مواقفة العظيمة معي ومع جماعته واستلهم من تلك المواقف العبر ..
الألم الكرية
الألم تجربة كريهة ، ناجمة من ضرر مُحْدَثٍ لأنسجة الجسم المختلفة نقف حياله جميعا عاجزين ..
أحاول وانا بجانب والدي ان أخفف عليه الشعور بالوجع والوحدة وعدم القدرة على الحركة وعدم استطاعته تذكر الاسماء والاشياء والمواقف والأحداث ولكني أفشل …
فأعود بالذاكرة بشكل مشوش استلهم من الذكريات الصور أذكر ذلك الرجل الذي لا يعرف الكذب خسن الاخلاق سمح المحيا يمتلك عزة نفس تغني فقراء العالم لا كبرياء ولكن اعتدادا بالذات …
انها الأخلاق الحميدة .. فهو معنا ومع غيرنا مرن وتألفه القلوب محبا للإحسان خفية ، ويضرب فيه المثل بين جماعته بالأمَانَة ، يؤثر غيره على نفسة ويرخص ماله وروحه يوم العطاء ، بارا بنا وبالأقرباء قدم التضحيات في شبابة ومشيبه ….
يا أبي لا ادري ماذا أقول وماذا أكتب ..ويكفيني من القول إنني في غاية السعادة هذه الليلة وانا أراك مسترسلا في نومك لا تشكو من تعب أو ألم
واقول لهم :
أتركوني عند أبويه طال عمره
في ( مقابل ) والدي تفرح عيوني
عند أبو صبار عابر أخو عبره
منزلــه .. بين الثريا والمتونــي
والله اني عند خبره عند خبره
ما تردا .. والخلايق يشهدوني
سنوات يا أبي وانت تعاني وتحتسب ونسهر معك على أمل شفاك ..
نحن أبناءك عاجزون وندرك حجم المعاناة .. نئن مع أنينك وتذرف دموعنا مع الأم جسدك ..
أبي مرضك علمني دروسا في هذه الحياة لم اتعلمها في قاعات الجامعات أو الفصول الدراسية أو مجالس الرجال ولا حتي من قراءتي للمفكرين والأدباء …
تعلمت في جامعتين ودرسة في بريطانيا وعملت في الصحافة وخالطت علية القوم بكل أطيافهـم …
ولم أتعلم الا منك ..
أبي لا يعرفني و لا يأكل ولا يتكلم ولا يتحرك ولكنه لقني درسا ان الحياة ليست بالأقوال وان كانت ذات زخرف إنما بالأفعال وان كل الأعمال الدنيوية مالم تك خالصة لله ضائعة …
اسأل الله العلي القدير ان يبقيك فوجودك جود من الله علينا ..
أرحل مع الأوجاع في يوم مثواي
والا بحياتي لا تفـارق حيـاتي
عندي عزيزن لك مكانه ورجواي
تبقى سراج العمر في المقبلاتـي
ولاتأخذ الفرحه من النفس دعواي
سهله عسى تسهل عليك إمنياتي
والله غيرك ما عرف داي ودواي
غيرك يحسب العشق عشق البناتي
وانا عشقت القرب والبعد كواي
وعشقت روعة خشعتك بالصلاتي
ويا كبرها يا أبوي يا كبر بلاوي
محدن بهالدنيا الوسيعه مناتي
غيرك بقايا الخلق للهرج رواي
والا أنت في عيني حياة وحياتي
أرقد وانا أسهر واشتكي مر شكواي
للخالق الوالي أبث ادعواتي
يارب
يارب
يارب شاف أبوي خله لسلواي
شأنك وانا عبدك وعبدك وصاتي
قبل ان أطوي صفحة هذه السيرة لرجل عظيم .. أحببناه
نريد ان نقول لكم شيئا مؤلم ..
انا واخواني نرافق مع والدنا لا فضل ولا معروف لنا بل واجب ونحن نشعر بالتقصير الكثير …نعم نشعر بالتقصير ونلوم أنفسنا كيف مرت الحياة سريعة وابي معنا ولم نشبع منه ولم نرتوي من عذوبته …