فصل من رواية زمن الياسمين ل جريس عزمى – الجزائر
كان يوما طويلا وكئيبا ينتظرني لكن موعدي مع كارمن على الغذاء هو فرصة فرحي الوحيدة. إنها أقرب صديقاتي في الحقيقة إنها صديقتي الوحيدة.
لم نلتق منذ فترة بسبب انشغالي بالعمل ووجود عماد في حياتي.
_ آسفة حبيبتي تأخرت عليك.
و كعادتها تأخذني في حضنها طويلا و تُهدهدني و كأنني طفلها ماريو..
ان مشاعرها متقدة دائما وروحها متوهجة تشعر بالحب نحوها حالما تراها ..تشعر معها بالحرارة والنار وما في قلبها على لسانها كما يقولون.
وكنا نمزح دائما بهذا الشأن. كانت تقول لي ربما في دمائي الإسبانية قطرات دم عربية فلهذا نحب بعضنا البعض ..إنها قريبة من روحي ومن فكري و من نفسي إنها شقيقتي التي لم تلدها امي..
_اشتقت لك ..دعيني أنظر اليك قليلا.
و جعلتني الف على نفسي ..
_لقد فقدت بعض الوزن لكنك ما زلت جميلة بل أنت احلى هل هناك سر لا اعرفه ؟؟
و جلست وانا ما زلت أمسك بيدها
_ أنا مغرمة ..مغرمة حد الجنون.
ونظرت الي طويلا وكأنها تنتظر المزيد..
_الغرام سر كبير صديقتي
و هززت رأسي موافقة.
_ هل أعرفه؟؟
و هززت راسي بالنفي هذه المرة.
_ إنه خلق لأجلي ..فقط لأجلي .لقد صرت أعرف طعم شفتيه من كثر أحلامي و كلما انرت ضوء غرفتي تتصاعد رائحة عطره و اعيش دوامة العشق والاحتراق في غيابه و حضوره تأخذني عيونه الى عالم القصص المنسية في عيونه أنا أجمل النساء و أنا الإثارة و العبق الآتي من أعمق الأزمان و الحقب..
فأنا قبل هوانا لم أكن شيئا..
وصاحت بي..
_ يا بنت ..أوف اسمعوا من يتكلم في زمن آخر الرومانسيين
وابتسمت..
_ إني أعشقه لقد دخل حياتي و ملك علي روحي وفكري وكل شيء في إنه يعيد ترتيب كل شيء .أشعر حين ينظر الي أنني أجمل مخلوق في هذا الكون و انني أثمن من كل مجوهرات الدنيا في عينيه.
شعور غامر لا يوصف ان ينظر اليك انسان بهذه الطريقة.
وساد الصمت بيننا.
_متى التقيتما ؟ و أين كنت أناو كيف لم تعرفيني عليه بعد؟؟
و ضحكت ..
_إنك لا تفهمين ..معه أستغني عن كل البشر لا أرى أحدا و لا أرغب في رؤية احد غيره هو .
و ضحكت كارمن..
_ اذا صديقتي لقد انتهى أمرك حبيبتي ..قضي الامر انك فعلا مجنونة به.
و تفاجأت به ذات ليلة يقف بباب شقتي كان المطر قد بلّل شعره و معطفه و كأنه قد قطع باريس مشيا على الأقدام. كنت عائدة من عملي متعبة و كئيبة و ظهر أمامي كأول مرة و قفز قلبي في صدري حتى و انا بين أحضانه أشتاق له.
وهمس في أذني..
_ اشتقت لك..
و شكرت الله أن شعري المبلل المسدل على وجهي كان يُخفي احمرار وجهي و الشوق الذي بعيوني ..فهو من قال لي يوما من البوح تتفجر براكين العشق ..و أقول لصمتي هدير الموج وهطول المطر وسيول الحمم فأنا غيمة عشق مثقلة الحرف والنثر.
دعوته للدخول لكنه رفض متعللا بموعد عمل و انه جاء ليراني و يدعوني للعشاء بعد موعده.
_ سيكون عشاءا متأخرا لكني بحاجة لان اراك فغدا انا مسافر الى ايطاليا.
و غمرني حزن لم أشعر به من قبل و كان الفرحة ماتت بقلبي فجأة.
_ لن أراك غدا؟؟
و أمسك بي من كتفي برفق..
_ فكري باللحظة الآن فغدا لا يعنينا.
_أي ساعة؟
و ابتسم و كانت ابتسامته أجمل الهدايا و اثمنها ..
_ سأكون هنا عند العاشرة.
و ذهب و تردد صوت خطواته على الدرج بعد الصمت الذي تركه وراءه.
و قررت أن العشاء سيكون بالبيت فرصة ان أستعمل مطبخي ..لا اطهو دائما لكني احب الطبخ كثيرا و عندي قناعة أننا نطهو بحب للآخرين. وقررت ان أحضر أطباقا جزائرية أتقنها أتمنى ان تعجبه.
كان كل شيء جاهزا الآن. فبعد حمام دافئ قررت ان أفاجئ نفسي بارتداء ذلك الفستان الذي اشتريته منذ شهور لكن لم تكن قد سنحت فرصة لارتدائه . كان جنونا مني حين اشتريته .كان فستانا يليق بممثلات السينما كان احمرا بلون الدم و محتشما لولا تلك الفتحة التي تمتد من القدمين حتى اعلى الفخذين.. انها فرصة فريدة لارتدائه.
و عند العاشرة كان يقف في وسط غرفة جلوسي و باقة ورود بيضاء و في يده الاخرى علبة مغلفة بورق هدايا فاخر.
كان مغريا بوقفته تلك أمامي ..أحاول ان أقرأ أفكاره لكنه ظل ينظر الي و كأنني رسم يراه اول مرة. و لدقائق تمنيت لو انها لا تنتهي أبدا و ان يبقى واقفا هنا ينظر الي بتلك الطريقة ..نظرة حب و اعجاب تشوبها رغبة تتماوج كضوء شمعة على صفحة ماء.
يا الهي إنه يجعلني أقول كلمات لم أفكر بها من قبل.
_و هل تعتقدين انك ستخرجين هكذا؟
و فتحت عيناي على اتساعهما من الدهشة
_ هل تغار علي؟؟
و بعد ان وضع الورود و العلبة على الطاولة اقترب مني بهدوء حتى لامس وجهه وجهي و شعرت بأنفاسه المضطربة تلفح و جهي المرفوع نحوه ورأيت ذلك النور الذي يلمع بعينيه كلما رآني ..
_ نعم اغار عليك من نفسي و أغار عليك من النسيم في شعرك أغار من أصابعك فيه ..اغار عليك من كل شيء.
و ساد الصمت بيننا فللقلوب هدير عصف الأحاسيس و سيل انهار حروف العشق براكينا و تزهر المسافات بيننا ورودا و حبا و اشجار رمان حباته غرام في غرام.
و للحظة شعرت انه إن طال الصمت بيننا فلن يكون هناك عشاء..
_ لقد حضرت العشاء فهلا تفضلت سيدي من هنا لو سمحت.
و تأبطت ذراعه حتى الطاولة..
_إنك تلعبين بالنار
و ابتسمت له
_ أحب اللعب بالنار معك.
و نظر الي تلك النظرة التي تشعل الجنون في نبضات قلبي..
احب من الحياة قربك مني و احب فيها حبك لي. احبك في البعد و احبك في القرب و احبك في الحياة و احبك في الموت.. و ان كان بينهما شيء احبك فيه.
فحين انظر إليه يسكنني الشوق اليه و كان دهرا مر من عمري انتظره و ضحكته الطفولية على اعتاب الرجولة تزرع في أعماقي حقول السوسن والأقحوان و تبدد في السكون احزاني و تمطر فوق شفاهي قرونا من القبل.
كان المطر مازال ينزل مبعثرا موسيقاه التي تتسلل الى الروح فتطير اسراب فراشات و يزهر زهر الشجر و تلمع نجوم بالعيون و تنتشر خيوط من نور عند السحر.
و حين جلسنا على الاريكة جنبا إلى جنب تواصل الصمت بيننا فغير أنفاسنا و صوت المطر لم يكن هناك الا نبض قلب يتبعه نبض كلمة وبين النبض و النبض أشواق عند الشفاه لم تُذكر..