الكاتب السوريّ: هاني الملحم يحاور الشاعرة والمترجمة الجزائرية: عنفوان فؤاد
نشرت في عدة مواقع إلكترونية وجرائد ومجلات ورقية.
ترجمت نصوصها إلى عدة لغات منها: الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية، الإيطالية، اﻷلمانية، الرومانية، اﻷمازيغية، والكردية.
ساهمت في أنطولوجيا شملت كتاب الهايكو وتعد أول (صوت نسوي)كتب الهايبون في الوطن العربي.
كما ساهمت في أنطولوجيا عربية ثانية للهايكو. الصادرة عن دار مومنت/ بريطانيا
• تعد من مؤسسي الحركة السريالية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
•ومن المساهمين في تحرير مجلة “الغرفة” السوريالية.
مع شغل منصب مسؤول عن قسم الترجمة.
• صدر حديثاً ديوان هايكو -يعد ثامن إصدار لها-
عنوان الديوان (منقار الكركي يشقّ برتقالة المساء!)
عنفوان فؤاد شاعرة، مترجمة، كاتبة قصة، وفنانة تشكيلية جزائرية من الأوراس شرق الجزائر، اشتغلت في حقل المحاماة قرابة السبع سنوات، كما شغلت منصب أستاذ متعاقد في الجامعة لعدة سنوات.
صدر لها ديوان شعري بعنوان “غُودو يأكلُ أصابعهُ” عن دار هن/ القاهرة سنة ٢٠١٧
كما أصدرت الشاعرة عدداً من الكتب الشعرية الإلكترونية منها:
أراه لا يراني ,تلبسني بلا ملل روحي, دعيني أحرق الموت , غداً أنت لي, بين أضرحة القلوب, لي بعنق الحزن رسالة
ربما لذهول كثيف من تلك الحنكة في الإجابة عن أي سؤال كنت أظنني بارعا في طرحه ، بل من عجز في اللغة عن كتابة ترحيب بامرأة تعيش وحيدة في غابات الشعر، وعلى ضفاف أنهاره تربي قصائدها؛ لتظل وفية للماء الذي يفيض من كل عين تقرأ ما تبوح به هذه المرأة التي نذرت أصابعها قربانا لكل مجاز يجيد تقبيلها من حيث تشاء ولا تشاء ،هذه المرأة التي تشبه وردة ولدت من رحم صخرة تتضور شوقا للرقص ،للعناق، للغناء وللبكاء، لا اسم لها سوى عنفوان فؤاد.
– تعالي لنفترض أن اللغة جرح قديم في خاصرة امرأة وحيدة ،وأن طعنة في حنجرة الليل كانت سببا في كل هذه المواويل .هل تذكرين أول دم سال من بين سبابتك والإبهام؛ ليعانق ورقة بيضاء؟
مثل جرح ينفتح الشعر، ومثله تتفتح بقية الأشياء. وهذا الوجود عبارة عن جرح، نحن قشرته كلما تألم أحدنا تهيج ذاك الجرح.
أول دم سال من جسدي كنت طفلة سرعان ما تتعثر بالفراغ، والجاذبية تعانقها طوال الوقت. كان جرحا غائرا على مستوى الركبة ،وتوالت بعدها السقطات لغاية اليوم.
أذكر أنني تألمت ساعتها، لكن سُرعان ما تحول الألم إلى لذة غريبة، خبرت مشاعر الألم التي لا يمكن اختصارها في بضع الكلمات.
منذاك بدأت صداقتي مع الدماء.
ثاني محطة هي ما سال من بين فخذي دون ضفاف تلمه أو حجارة أقف عليها قبل الغرق في تيار الدهشة.
لم أكن على دراية مسبقة بذاك النهر الذي يصب في كل شهر لم يخبرني أحد بشأنه.
بخصوص دماء الكتابة فهي بيضاء بيضاء تلك الكتابة السرية التي تستلزم جهدا فكريا لتشفير ما يجب، وكشف مالا يجب.
أما البياض فتلك مساحة مسيجة بالهوامش تحتاج جهدا لطمسها بالألوان، أو متعة مؤقتة لحظة تقليبها ،وحرثها بالكلمات والمعاني التي تحتاج منجلا حادا وجادا لحصادها فيما بعد.
كما قال بارت :” الكتابة تخيف؛ إنها تنمو مثل بذرة،
وتظل تهدد بإفشاء سر”
كذلكَ البياض يفعل بي ذلكَ وأكثر..
– للمرايا يد في بعثرة التفاصيل ،وقبيلة من الأيادي في توثيق هذا الخراب ، ما الذي وجدته من قيامات في ملامحك، وما الذي ضاع في طوفان الفراغ ؟
فقط في المرايا تتعطّل لغة الريح.
أما الخراب فهو سفر هذا الإنسان الذي يرتله على مسامع العدم.
الملامح انسياب الرؤى، ويبدو أن وجهي الطيني يريد التحرر من الملامح التي ترتبه كوجه إضافي إلى سلم الأقنعة.
الملامح خارطة غرق.
أما السواد
فثقب آخر يريح عابر الكلام.
الأمكنة الفارغة نحشوها بفراغات أكثر، بهذا نشغل الفراغ بالفراغ.
هكذا حال الكتابة يا صديقي، إن لم تتسع على ضيق رغما عنك، لا رغبة منك. دع عنك التفاصيل من سلالة القش، الحشو وما شابه…
فمثلها مع أول شرارة تثير لعاب الحرائق.
– كم عادة سرية تمارسين غير البكاء؟
حتى لا نقع في فخ اللغة، ثمة عادات سرية وأخرى سريرية، ألا توافقني الرأي! ؟
بلى ، أوافقك هذا الاعتراف.
أخالك تقصد الأولى
حسنا سؤال:
هل تعتقد أني سأبوح لك بعادات طرية وناعمة من فئة الهشاشة كأن أبوح لك بقضم أظافر أصابعي، والتي لا أتنازل عنها تحت أي ظرف!؟
الأظافر الوحيدة التي يجب أن تقضم -بلا شفقة- حتى آخر عقدة باليد هي أظافر الكتابة.
قلت البكاء: أوووه ذكرتني بعادة صحية كنت قد نسيت تعاطيها منذ فترة طويلة.
العادة
منديل عاطل عن العصر
والألفة تنشأ بعد
آخر حفنة تراب يا هاني.
النقطة والعودة إلى أول السطر
هذه في حد ذاتها عادة سرية وشريرة للغاية ﻷني أمارسها مع البياض طوال الوقت.
في العادة أنا مزاجية بشكل لا يطاق.
هذه الأخيرة هي التي اختارت ممارستي لا العكس، ويتم ذلكَ حسب مواقيتها هي لا أنا.
الفرح أيضًا عادة سرية لكن تخون صاحبها بأن تطفو على سطح القلب وملامح الوجه. هذه العادة بالذات أمارسها على فترات متباااااااااااااعدة.
.
العد العد العد…
أنا من الذين يعانون من متلازمة العد، عد الدرج، الشجر، الحجر، العصافير، التجاعيد، الأسماء، الخيانات، الغيمات، النجمات، الأرقام، الطعنات…
لم أشف من هذه العادة القديمة يا صديقي.. بصراحة لا يمكنني تصنيفها إن كانت سيئة أم جيدة، لا يهم إن كنت أمارسها سرا أو على العلن. بممارستها أخفف من ضغط التفكير أو محاولة مجهضة لتسريب صوت ذاك الطفل.
وأنت تصعد درج الكلام
أقعُ في فخّ العدّ،
هذه العادة السيّئة
التي لم أنزل منها بعد.
الندم أيضًا عادة لا أجيدها عالعموم، هو من عاداتي المؤجلة.
أكتب وصيتك
بماء الندم
نصيحة
لا تضعها تحت وسادتك
اقرأها على مسامع النمل
والطير
سينفذونها
يشكرونك
لأنك كنت جثة شهية
على غير العادة.
اقطع نسغ الكلام
هكذا
بشفرة صدئة
لا تخشَ
على دمك
لن يجف
فقط ستتعب عاملة الفندق
وهي تتخلص من ذاك السواد
حولك.
هل تعلم، أنتَ تحرضني على خيانة عاداتي وأسراري يا هاني
يا إلهي! من قال إنني سأفعلها! لكن لا بأس يروق لي هذا التورط.
عادة صحية جديدة صرت أمارسها،
إضرام النار في جسد الشعر!
نعم نعم..
بعض النصوص لا تقرأ إلا بالحرق يا صديقي، عليك بجراد النار للتخلص من حقول الكلمات اليابسة.
هذا ابتكار ثان للغة، كتابة موازية، فعل التمرد والجنون من أجل كسر أي قفل مفهوماتي للكتابة بكل أطيافها…
بالمناسبة نفس الممارسة أقوم بها مع رسوماتي، وثمة شهود -من حبر-على هذا الفعل اللاعقلاني..
–
هاتي اسم شاعر تشتهين أن تغطي قصائده ولعناته ما تفتح من جلنار في جسدك.
“خلايا الجسد تتبدل تماماً كُل شهر.
في هذه اللحظة الحالية، مُعظم ما تعرِفهُ وتعتقدهُ عني هو فقط ذكريات ليس إلا”
أتساءل حقاً أي غباء جعل هاروكي يتلفظ بهذا الكلام!
طبعاً، أنا لا أوافقه الرأي.
ثمة مقولة فرنسية تقول:
“L’oeil est un gourmet comme la bouche.”
ينطبق تماماً على الجسد، إذ يستحيل إلى عين تلهث تارة وتعبث تارة أخرى..
•
بإمكان الجسد أن يصبح وجها بأكثر من عين
حرك عِصِيّ
حدوسك لتتفتح عيونك المُخْبََأة
عنك.
•
لطالما رأيتني مغطاة بوشوم ليست مجرد طلاسم أو رسومات غرائبية من باب الاختلاف لا غير..
بعيداً عن جماليات الجسد ،وطعنه بمشارط العمليات من باب التلفيق الجمالي.. الغاية الوحيدة هي ارتداء قصائدي وشذراتي كي يقرأني الآخر دون غايات شهوانية أو ثرثرة لحمية.. ومن يصلح لمثل هذه المهمة غير “شيرين نشأت” التي تمنح الجسد فرصة كي يصبح معرضا بصريا أو لوحة نادرة تحملها حيثما ذهبت أو كتابا مفتوحا يحتاج أصابع برايل لفك تلك الأبجدية.. تلك ال”شيرين” التي عدت الجسد مأزقا وجوديا علينا تحريره من قالبه الطيني وطبيعته اللحمية.
هذا ماذهب إليه “فينسنت فان غوخ”
بقوله: 《أريد أن أسافر في النجوم، وهذا البائس جسدي يُعيقني》.
أما ظل هذا الجسد (جسد عنفوان) أريدُ أن تتلبسه “فرانشيسكا وودمان” التي ترى بأن الحياة مجرد فوتشوب وما نحن سوى أدواته المستهلكة. فرانشيسكا، تلك المترعة بالمخاوف والوحدة، تخرج إلينا بأرواح قطط القصائد من زوايا الصور ومن خلف ورق الجدران الممزق. تسيح من عين الكاميرا كشبح لا يتوقف عن إثبات حضوره.
وإن سألتني من أختاره لمهمة تفصيل ملابسي، بكل تأكيد هي الحكاءة “لويز بورجوا” التي تسرد لنا قصصا ومشاعر بأصابعها، تحيك تفاصيل النتوءات والتدويرات ،ثم تطرز رؤاها العديدة. لويز -أم العنكبوت وابنتها-، وهي القائلة بأن 《فعل الخياطة هو عملية
ترقيع للعاطفة》.
لنعد إلى سؤالك صديقي بخصوص الشاعر، “أنطوان آرتو” أكثر شاعر أود أن أحمله على ورقة جسدي. هو القائل:《لا أتقن الكتابة، أمارسها كصلاة من أجل أن أطمئن》إحساس الطمأنينة لا يأت إلا بعد معاناة مكرسة. هذا الشاعر “اليونيك” المعجون باللعنات، الناقم على كل شيء حد اللاشيء..
صحيح أن آرتو لا يشبه إلا نفسه إلا أننا نتشابه هو وأنا.
وهو القائل:《ليسَ ثمةَ داخلٌ، لا روحٌ أو وعيٌ، ليسَ غيرُ جسمٍ وهو ما قد يُرى، جسمٌ لا يكفّ عن الكينونةِ، حتى لو سقطَت العينُ التي تراهُ.
ومثلُ هذا الجسمِ حقيقةٌ.
هو أنا》
بدوري أجيبه:
أن تتأرشفَ الروح، يا آرتو،
أن تخلع الجسد قشرة قشرة.
في اﻷخير، لا يهم مآل هذا الجسد فيما بعد
إن تكوم على بعضه ،وتعفن إلى الأبد، أو استحال منفضة رماد لسيجارة العدم..
– أي مذهب تعتنقين، وأنت تصبين مجازاتك في أقداح الباحثين عن هذيان ينقذهم من خرافات اللغة، وحراس معابدها الآثمين؟
للإجابة على سؤالك يحضرني قول هولدرلن: 《إن اللّغة، أخطر النِّعم》
إذن، نتفق على كون اللّغة إديولوجية كل الإديولوجيات، وهي السلطة الحقيقية المتخفية والمندسة في كل فكر إنساني وصل إلينا..
وأنا أعد اللّغة لسان عقل الإنسان.
يقول أخطر فلاسفة القرن العشرين لودفيج فتجنشتين: 《حدود لغتي تعني حدود عالمي》
والنص الشعري الحداثي يمثل تشكلا دلاليا جديداً وانزياحا للغة، واحتيالا من المبدع على اللغة النثرية؛ لتكون تعبيراً غير عادي عن عالم عادي.
نحن نسعى دوماً لترطيب وجه اللغة بمرهم الوعي، وكشط دهون الشروحات.
ما لا يُرى يُقال سرا
وأنا أطلقت غربان اللغة
في غابة الصمت.
نتفق أنت وأنا على أن الجيل الجديد الغاضب لن تثنيه أطر اللغة ولا حواجز الواقع، سيواصل “عنفوانه” بطريقته التي يكسر من خلالها القيود التي أوجدها كل من الباحثين ،وحراس المعبد الآثمين..
أضع يدي في جيبي
أحرك فكة اللّغة
أخرج قطعة لا غير،
أقصد فكرة عقيمة
أقربها من فمي
أقبلها مرارا
ثم ألقي بها في نهر الكتابة.
•
وفي الأخير، على الأفعال أن تتضاجع، لا أن يُفرّق بينها في سرير اللغة.
– متى يحق للغة أن تراك عارية؟
وفي أي حيز تحبين أن يضاجعك المجاز؟
بدايةً سأستعين بشذرة لبوصكي:
《ما أن انتهيتُ من كتابة القصيدة حتى قالت لي:
“ أُمْحني ”
فليس هناك مكانٌ لنا نحن الاثنين》
هنا المكان والزمان يتسعان على ضيق، ولا يسعان أكثر من اثنين، إما أن يكون الشاعر حاضراً بقوة وإما أن تتجلى القصيدة فتخبو هالة الشاعر.
نحن الآن
حبيسي الآن
هذه “الآن” يمكنها أن تصاحبك حيثما ذهبت، ويمكنها أن تتخلى عنك في أي وقت شاءت.
أجد أن القلق مهنة بدوام كامل، إن حدث وخرجت من حالة القلق أكون ساعتها عاطلة عن الكتابة.
فيما يخص الشق الثاني من سؤالك المتعلق بتوقيت العري.
يا صديقي خلقنا عراة لنعود عراة، أيضاً نحن عراة أمام أنفسنا، وأمام من نحب، أليس كذلكَ! لكن بثيابِ القصيدة نستر سوءة الصمت.
فلا الشّعر بستانُ النظر
ولا العين دفتر جمرْ.
أحيانًا أذهب في مهام أخرى، كأن أقوم بسلخ جلد الوقت، أو نسخ وقت عن الوقت!
هنا في اللاوقت
انتزعني من رمل الساعة
أدفن الجهات
في سطر المحو
كي لا أغادرْ.
أنا لا أقيم خارج مدار القصيدة، وإن فعلت تغضب مني وتنكرني.
أجد أن البذخ والرفاهية طريق معبد للقضاء على الشعر. طبعاً لا يمكن تعميم الأمر لكن ما أقوله عن تجربة خاصة وخالصة. لهذا لا أجد صعوبة في اقتراف الشعر، استحضره كما يستحضرني. أسكنه من أشاء وأؤثثه بما أشاء.
لكن سؤالي المكرر على مسامع قبوي والمسوخ التي أربيها هناكَ:
هل كلّ ما كتبناه
بدافع الحياة،
هل كل ما مزقناه
بدافع الخلود!
كم أنفقنا من الشعر لنصمت!
كم أنفقنا من الشعر لنجيب!
هذه التساؤلات وغيرها تسرق مني المزيد من الثياب، أكاد أفقد حتى جلدي..
-كيف اندلعت نيران اللقاء الأول بين الفلسفة والشعر؟ ولماذا لم ينجح أحد في إخماد تلك الحرائق اللذيذة؟
أحب الحرائق
خاصة تلك التي تتناسل
من حطب المخيلة.
《إذا كانت اللغة تستلزم في تطورها تجديدًا مستمرًّا، فليس هناك من مصدر أفضل ولا أكثر عمقًا، لتحقيق هذه الغاية من الشعر》 هذا حسب (أرنست كاسيرر)
فالشاعر الكبير يطبع دائمًا تاريخ اللغة بطابعه الخاص، فهو ببساطة يمنحها حياة جديدة.
مثلا في “رسالة في النزعة الإنسانية” يعزز هايدغر هذا التصور لعلاقة الشعر بالفكر والفلسفة، بقوله: 《إن الفكرة التي سبق ﻷرسطو أن عبر عنها في كتابه “فن الشعر” تظل صحيحة دائمًا: فالإبداع الشعري أكثر صدقًا من البحث المنهجي في الموجود》.
“فبحكم أنّ اللغة هي مأوى الوجود، حيث يأوي الإنسان، وحيث يوجد بالمعنى الهايدغري للكلمة، أي بانتمائه إلى حقيقة الوجود الذي يحرسه ويرعاه”.
بعد طرح ما سبق، في اعتقادي أن التلاقح الفكري ما بين الفلسفة والشعر، يمنح اللغة طاقة متجددة تسري في عظام الكلمات.
فلكل كاتب بذرة القلق الوجودي الأولى في حياته. ومن الجنون أن لا نقع قرباناً لتأثيرات الفلسفة، ومن الحمق أن لا نغتسل في نهر الشعر مرتين.
الشعر يا صديقي، لا يحتاج إلا إلى عقلنة وفلسفة الجنون.
فيما يخص نصوصي ثمةَ احتكاك عنيف ما بين الاثنين أي،(الشعر والفلسفة) ويتم ذلكَ داخل هذي الدماغ.
يولد الشعر قبلنا
ليمهد لنا فخاخه ومكائده التي تنتظرنا فيما بعد بت أرى الشعر في كل شيء، بإمكاني أن أجده في جثة ملقاة على ناصية الحدث، في تابوت يومئ لي بقصيدة منتهية الصلاحية، في وردة شارفت على مغادرة عطرها وهكذا
نعم، فالقصيدة ليست في منأى عن الفلسفة والعكس صحيح.
وأغلب الشعراء يستميلون القارئ من أجل كسب الشفقة أو لفت الانتباه إلى نصوصهم ليس إلا.
نحنُ لم نتحدث عن الكتابة تحت الطلب بعد ولا عن شعراء المنابر.
في الأخير على الشاعر أن يوفق مابين الشعر والفلسفة كي يتمكن من تهيئة طقس خاص به للتأليف الشعري. وعلى الآخر (المتلقي) أن يشتغل على شحذ وشحن محركاته المعرفية.
في هذا السياق، يحضرني تأكيد “راينر ماريا ريلكه” على 《أن الشاعر يظل شاعرا حتى في الطريقة التي يغسل بها يديه》، هذا التعالق العميق مابين الفلسفة والشعر ينعكس تلقائياً على الشاعر وكتابته ليمارس فلسفته الشعرية..
– تكثرين في نصوصك الحديث عن القُبلة وطقوسها وماهيتها، كم حاسة تستيقظ في لغتك وأنت تدونين هذا الرضاب؟
أوووه! القُبلة القُبلة القُبلة
القُبْلَة في الأصل فراشة،
وإلا ما تفسير ذاك الاحتراق
عند تبخر العناق من تحت العناق.
كلنا مصابون بعدوى القُبل. ومن يدعي غير ذلكَ فهو كاذب جداً.
لست الأولى ولا الأخيرة التي طعمت نصوصها بالقبلات. أجد أن حاجة النص للقُبلة، كحاجة النهد للحلمة.
بإمكاننا الاستغناء عن أشياءَ عظيمة وعديدة معا، عدا القبل.
ناولني فمك
ﻷجتاز صباحي قُبلة قُبلة.
أنت أكيد على علم باليوم العالمي للقُبلة طبعاً هذا تحفيز على تبادلِ القبلات لإنعاش جسد المحبة.
وفي هذا الصدد اقترفتني القُبلة فقلت:
في عيد القُبلة
أريدك فما لفمي.
الجدِيرُ بالقُبلة
أن خد الحب لم يعد يسع اعتراف الشفاه.
الجدِيرُ بِالحُبّ
أن قُبلتَك عبرَت المسافة
عبرت الشاشة
عبرت الخد
عبرَتني
وانتهى أمر الحب.
ومن في هذا النهار اللّاهِب
يبقى حبيس اللهفة
من يرقب شقّ
الخد؟
من يقطف ورد
الفم؟
من يسكن حديقة
القلب؟
قبل قُبلتنا الحارقة
الشَّارِعُ
لم يكن بهذا الهدوء.
انظُرِي
قلت:
هكذا تتم سرقة القُبلات.
مدي يد فمك
سألتني:
أمدك بجسر قبلات
أجبت:
لم تبقَ سِوَى
كلمة ضئيلة
وأنتزِعُني
من ثياب الخجل
ثم ألبسك
طوال العمر.
والعِناق
سألته؟
قال:
أن نموت بالقُبلات أولا.
مُرهقٌ هذا الخدُ
بصمته
ولا فم بالجوار يجلس فوقه.
لا تكن زاهدا
أريدك قُبلة
لا تفنى.
(*)اليوم العالمي للقُبلة
ليس هذا فحسب، فأنا أعتبرني محرضة رقم واحد على القبلة وملحقاتها..
مؤخراً أيام الحظر الصحي المفروض على العالم أجمع كتبت منشورا على حسابي الفيسبوكي، وكنت قد دعوت الأصدقاء للمشاركة في هاشتاق القبلة
وقد أجهشت خدي القُبلات التي وصلتني.
وكان المنشور بهذا الشكل:
(*)حفاظاً على مقام القُبلة
دَعُوا القُبَل لِلْمُقَبِّلِين
دَعُوا بِكْتِيرْيَا الشَبق تتَكَاثَرُ فِي مُخْتَبَر اللَّذَّةِ
سأفتتح هذا المنشور بهذا النص
من يود المشاركة
يكتب في التعليق نصه مع صورة من اختياره طبعاً
دعونا نعيد مجد القبلة في هذا التوقيت المحنط باللاجدوى.
القُبلة
فاصلة بين جسدين.
كان قد استجاب الأصدقاء لنداء القُبلة بشكل غبر متوقع. وقد فاجأتني الشاعرة المغربية (منى وفيق) بمشاركتنا بعض قُبلاتها من مجموعتها المعنونة ب(#هاشتاج قُبلة، كتالوج كْلُوس أَبْ 2009/عمّان)
وهنا بعضها
(تنبيهُ شهوتي حادّ،
أحتاجَ إلى لسانك ليشرحه.
قُبلةٌ صحيّةٌ جوَّعْتَني بها في مطبخ مشتّت التّفكير.
أخرى، نزَلْتَ بها في المصعد عن مزاجنا السيّء.
غيرُها، جلَبَت لك حظّا جيّدا في الطّريق السيّار،
الرّادارات تتعطّل مثلي، أمام القُبل.
قُبلةٌ بوتوكسيّة، نفخَتْ شفتيّ بدون جِراحة.
قُبلةٌ ثوريّة،
أشعَلَتِ النّار خليّة خليّة.
قُبلةٌ تشكيليّة،
أعادت رسم شفاهي بالحبر الصينيّ.
قُبلةٌ بريئة،
لا يَدَ لها في ميراثي الغاضب.
قُبلةٌ مصّاصة،
شَفَطَتْ دمائي ولعابي.
قُبلةٌ لئيمة،
“عليكِ أن تهدئي، لا زلنا في البداية.”
قُبلةٌ سامّة،
عَلَّمْتَهُما، شفتاي ماركة مُسجَّلةٌ باسمك.
قُبلةٌ راضعة،
قرَأَتِ الغيب صعودا ونزولا.
قُبلةٌ نهِمة،
لحسا ونهشا، بالرّفق وبالأسنان المتوحّشة.
قُبلةٌ صامتة،
لأنّ المغربيّة صوتُ الرّيح في البحار كلّها.
قُبلةٌ صارخة،
تعاوَنَتْ في رفعها الأصابع والأظافر «أُسكُتِي!”.
قُبلةٌ شاجِنة،
فَتَقَتِ النّواة. تألّمتُ يا حبيبي)
وعليه، نحن تحت وطأة القُبلة ومن حاد عن ملتها فهو آثم القلب والفم.
إننا كبشر أسوياء نشاطر الآخر الرغبة في الانعتاق من عالم موبوء بالحروب الإعلامية، والبيولوجية…
نوزع كسرة القُبلة لسد جوع المحبة ومد ساق السلام بسلام..
– لماذا لم يترك لك “غودو” أي ظل من أصابعه؟ أكان يعلم أن ندما سيباغته فارتكب هذه المجزرة بكل دهاء؟
*حين اقترفت “غُودو” تنفست بطريقة عكسية.
قلت ساعتها حسنا تخلصت أخيراً من انتظار “غُودو”، إلا أن أحدهم قلب الساعة الرملية داخلي. في مكان ما غُودو ينتظرني أعرف ذلكَ.
يا غودو،
من قال: “رَأْساً عَلَى عَقِب”
ومئات العظام تحت جلدي!
لحظة بلوغي خبر طباعة غُودو كنت قد كتبت هذه الكلمات معتقدة أننا نجونا من فخ غُودو لكن…
كنت قد غرست بعض الكلمات لتثمر وتنضج في صمت تجهيزا لمثل هذا اليوم.
خرجت هكذا لا دخل.
خبرت تجارب سيئة وأخرى مضطربة
كالحب، الحنين، الحزن، الجنون،والكآبة
لجأت إلى الكتابة
لأتعافى فلم تسعفني
لم تساعدني،
لم تنقذني.
وعليه؛
لو حدث وأن تعثرتم بكتاب يحمل اسم “عنفوان فؤاد”
لا تنحنوا لالتقاطه، ستصابون بعدوى الإفراط بالحنين، الحزن، و…
غودو أكل أصابعي؛
ويطمع بأصابع كثيرة أحملها
داخلي…
فاحذروووه!
التحذير الذي أشرت إليه ساعتها كنت أقصدني به وفي هذا المقام قلت:
الأخطاء كثيرة
متكررة
ومتورمة
يحفظها الندم عن ظهر صمت،
ألعنها على الإطلاق
أخطاء القلب.
أولئك الذين يعضون على أظافرهم
طوال الوقت
محزن
أنه لا يمكننا إعارتهم
أظافر الندم.
وآخر ما كتبت في غودو:
في غرفة الوقت
نلعب
《غودو وأنا》
لعبة الانتظار
هكذا؛
نتسلى
نبحلق في الدائرة القديمة
ننظر مليا إليها
ننتظر خروج اللاشيء
من هناك.
واﻵن إن جعلتها تمطر
داخلك
أكنت لتقطع الهواء…
بجناحين من نار
وتخرج من هذا النص؟
– ( الهايكو ) هتاف آخر تصدح به حنجرة اللغة في ثورتها على المألوف وربما كان تقليما ﻷظافر القصيدة الطويلة، هل تتفقين معي في هذا التعريف الفاشل أم في حوزتك تفاصيل سرية عن حياة هذا الكائن اللغوي المتهم بالغموض وبث الفتن والانقلابات؟
“الهايكو، هو الجدار القصير،
الذي يستسهل الجميع القفز عليه..”
الهايكو كل لون أدبي، مر بعدة مراحل كما أنه أثر وتأثر بثقافة ممارسيه. هذا ولكل “هايجن” مذهبه وديدنه، وبتعداد المذاهب تتعدد الرؤى والتي على إثرها تتوزع المفاهيم والاتجاهات.
من خلال ممارستي، أجد أن الهايكو دخيل على الثقافة العربية، رغم هذا تم استقباله والترحيب به، خاصة على مستوى مواقع الاتصال الاجتماعي.
والهايكو كما هو متعارف عليه قائم على التأمل، والتقاط مشاهد من الطبيعة الموجودة منذ الوجود ذاته، غير أن زوايا التقاطها تختلف وفقا لمعيار نسبي حسب خبرات الممارس وعمره العقلي وليس البيولوجي..
الكاتب المفتّح على ثقافة الآخر يحتضنه دون إشكال من باب التجريب، المعرفة، وكسر روتين نمطية التفكير الكلاسيكي.
أدّت هذه التداخلات إلى طرح إشكال جديد ما هي أساسيات أو ضوابط كتابة الهايكو ليس الهايكو الباشوي إنما
( الهايكو العربي )
هذا ما أدى إلى انقسام وجهات النظر كل حسب مفهومه واعتقاده اللبني أو حتى المكتسب، مما خلق فيما بعد ساسة ومعلمين ينهون ويجيزون بقولهم هذا هايكو وهذا لا، ناهيك عن النزاع القائم عن مدى شرعية دسّ المجاز بالهايكو والنسبة المحددة به.
الهايكو وبعد ممارسته اللامشروطة قدم لي قفزة نوعية في ممارستي الأدبية، وبانضمامي للنوادي تعرفت على كتّاب وأشخاص تفوقوا على أنفسهم ليا يقترفونه من جماليات الممارسة له ،والدهشة التي يسوقونها لنا مع كل نص مختلف، أعتبرهم على الأقل سفراء للهايكو العربي، حتى عند ترجمة كتاباتهم متأكدة من أن ممارس الهايكو الآخر سيعجب ويتعجب في ذات الوقت إن كان حقا صاحب النص عربي.
الكتابة هي سفير حال صاحبها وحتى ممثله الرسمي، وعن نفسي أمارس كتابة الهايكو ليس من باب المنافسة ولا المفاضلة، لغرض أبعد من هذا بكثير.. وما وُجد الهايكو إلا للتنفيس وتزويم اللّحظة ثم ضغطها في ثلاثة أسطر..
– ما الذي يخرجه الشاعر المترجم من قبعته وهو يلعب بخفة مع أي نص مترجم؟
أها الترجمة!
دعنا يا هاني نتحدث بوضوح.
في الشِّعرِ الحديث يشترك القارئ مع الشاعِر في كتابة القصيدة. أليس كذلكَ! أنا اليوم أدعوه ليكون شريكاً حتى الترجمة.
نحن اليوم أمام قارئ ذكي، فطن، صاحب ذائقة، مطلع، لا تفوته شائبة. يقرأ كل ما يقع بين يديه، ما ساهم في تطويره بشكل كبير، بكل تأكيد، وسائل التواصل الاجتماعي بما تشمله من تطبيقات وبرامج وغيرها، أتاحت له الكتب بصيغتيها الإلكترونية والسمعية.
لم يعد بإمكان المترجم أن يضحك على ذقن القارئ. لا ليس قارئ اليوم، لأنه لم يعد في معزل عن مساحة المترجم، ﻷنه يطرح العديد من الأسئلة، أصبح يشتغل في باب التنقيب والبحث الدوري. والمقارنة بين الترجمات حديثها وقديمها. لم يعد يرضى بأي حشو، أو أن تمرر له أي كلام.
يقول فرانك زاپا 《العقل يشبه المظلة. لا يعمل -بشكل جيد-
إذا لم يكن منفتحا》الانفتاح هنا بشقيه، الشكلي، والفعلي.
أعتقد الأمر واضح. فالمترجم إن كان محدود الفكر سينعكس ذلكَ على صنعته ونتاجه الترجمي.
لهذا وجب عليه أن يكون صاحب فكر متقد، منفتح على ثقافة الآخر بكل ما أوتي من فعل وقول. كي يصل إلى شيء من المقاربة، والإخلاص في مهمته كمترجم.
فالترجمة ليست شركة استثمارية تُلبّي رغبات المترجم أو تمنحه ثروة يتباهى بها على أقرانه.
على المترجم أن يكون شريكاً في تأليفِ نص جديد، بلغة جادة، متمكنة، غنية، فكر متوهج ومتقد.
المترجم السوي هو الذي يهيمنُ على النص المترجم بألعابه اللغوية مستعيناً بكارت نادر اسمه الذكاء، مشيدا بذلك جسراً متينا يصل بين ضفاف ثقافتين. مانحا بذلك القارئ تيكت الولوج إلى عالم النص الجديد مستمتعا بمشاركة الآخر هذه الولادة اللغوية الجديدة.
– سؤال، فيما يكمن دور المترجم إن تعثر بترجمة رديئة؟ كيف يصحح مسار هذه الطامة؟
بكل تأكيد سأجيب على سؤالك المشروع. تصحيحا لبعض المصطلحات، نقول لغة النص المترجم سيئة أو جيدة ولا نقول ترجمة سيئة وأخرى جيدة.
عندما يجد القارئ نفسه أمام نص من الفئة الأولى، يطلق عليه: (Langue de bois) لغة الخشب ويقصد بهذه العبارة، اللغة التي تستخدم عبارات مبهمة وغامضة ومجردة أو لمّاعة لتحرف الانتباه وتخسف بالمعنى. هذه العبارة تطلق على الخطابات وغيرها سواء بلغتها الأصلية أو المترجمة.
ما العمل في هذهِ الحالة!؟
الجواب هو: 《أفضل طريقة لانتقاد ترجمة رديئة هو أن تصنع واحدة أفضل》
على المترجم صاحب الضمير أن يقف عند حدود النص لا أن يتدخل ويقوم بإعادة كتابة حتى لا يدخل في باب التشذيب والقصقصة لأجنحة المعنى، والتشويه لمضمون النص، فيسلمنا مسخا يسعى في حقول الورق. ولا أن ينتصر لفكره أو يتطرف لأيديولوجيته فيقع في فخ الخيانة ولا أن يحافظ على النص فيجد نفسه قد ساهم في تحنيطه ليمنحنا (Traduction mot à mot)ترجمة حرفية باهتة، خاوية بلا روح. عليه الوقوف في منطقة وسطى يرى من خلالها النص الأصلي والنص المترجم لتحقيق معادلة الرضا.
– سؤال في نفس السياق، إعادة كتابة/ ترجمة؟
بكل تأكيد، هناك فرق بين المسميين: (Réécriture et traduction)، إعادة كتابة وترجمة. في هذا الباب يحضرني هذا القول:
《تكون الترجمة سيئة عندما تكون أوضح من الأصل وأكثر جلاء. هذا يثبت أنها لم تستطع الحفاظ على الغموض، وأن المترجم قد حسم في المسألة: هذه هي الجريمة》
وما أكثر جرائم الترجمة ومسالخ اللغة!
إذن، ما الفرق بين إعادة كتابة والترجمة!؟
(*) ارتأيت إلى ترجمة هذا المقطع، للاستفادة والاستفاضة.
[مفهوم عملية”إعادة كتابة” أي الحصول على نص تشعبي، طمس، ترفيه، إعادة كتابة أو “إعادة مبنى”، تحويل نصي، تبديل،…إلخ
يبدو أن هذه المصطلحات المستخدمة في بعض الأحيان في التفكير النظري المعاصر التي تتم حول ظواهر النص تحتوي على الأقل، على عنصر واحد مشترك.
تشير جميعها إلى تدخل (للحفاظ على الحد الأقصى من العمومية) والذي، ينطلق من نص أصلي، يؤدي إلى تكوين منتج نصي جديد، “مشتق” من الأول.
ولكن ليس من التافه أن نلاحظ أن بعض هذه الكلمات يمكن أن تنطبق أيضًا على فعل الترجمة بدرجات متفاوتة. وهكذا، عندما استحضر “جان ريكاردو” ما يسميه “بإعادة الكتابة” على أنها “مجموعة من المناورات التي تحرم كتابة واحدة لتحل محلها أخرى”، فمن المحتمل أنه لا يفكر مباشرة في الترجمة؛ ومع ذلك، في هذه الحالة أيضًا، يحتفظ تعريفه بمجمل أهميته.
نفس الملاحظة عند “هنري بيهار” الذي يحدد إعادة الكتابة “لأي عملية تتألف من تحويل نص البداية (أ) لبلوغ نص جديد (ب)]
-انتهى-
إذن، الترجمة هي محاولة تحوير ثقافة إلى ثقافة أخرى. الترجمة هي كتابة النص الجديد مع إشراك الكاتب الأصلي.
هناك مسألة أخرى غير جودة الترجمة ومقدرة المترجم في اللغتين واستيعابه للثقافتين. هناك ظواهر ومفاهيم ليست مألوفة في الثقافة العربية وليس لها مايقابلها من مفردات في اللغة العربية مما يشكل سببا رئيسا للقارىء العربي، فيرى الترجمة غير موفقة أو يستسخف النص الأصلي مهما بلغت الترجمة من تفوق. يظهر ذلك جليا في ترجمة الشعر والدراسات الاجتماعية، النصوص الفلسفية، والكتابة السريالية.
وعليه، عزيزي القارئ، لا تكن مسرعاً، عدوانيا أو متصيدا للمترجم. لا تحكم على نص مترجم ما لم تقرأه بلغته الأم. حتى اللغة الوسيطة تساهم في هدم جزء من المعنى والفهم.
في الأخير أقول، لا تقل عن لغة نص سيئة أو جيدة مجاملة لصاحبها أو تصيدا له. كن حليفا للنص الجيد ونباشا عن مواطن الخلل في النص السيء.
– عنفوان، ستة حروف، وربما خمس جهات تثبت صحة حمضك الموسيقي وتحدد جنسك كصدى في هذا العدم، حدثيني عن اسمك بما لا يقل عن دهرين.
إن القلب يشير إلى الجهات الخمس
والصدى يملأ ذاكرته باسم يحرقني
من غيري
يربي الوحشة في كهف عينيه!
.
“عنفوان” خمس شفرات تقطع حبال العواء فتصيب نورسا يعترض طريق الهواء.
الاسم يا صديقي مجرد فخ، ككل الفخاخ الجاهزة قبل مجيئنا. أنا لا أؤمن بمقولة: “لكل منا نصيب من اسمه” هذا النصيب نحنُ من ندبر شؤونه وندفع به إلى الوجهة التي تشبهُنا.
كثيراً ما راودني هذا السؤال: لو أتيح للشعر الكلام بأي اسم كان سيناديني!
نحن إشارات في جسد العدم، نحمل أسماء من سبقونا من باب التكريم، من باب التذكير…
بعض الأسماء تتواطئ مع الأنظمة لإطلاق أحكام مسبقة. فيتم تصفيتها فقط لأنه يحمل اسما ما.
في دفاتر السجلات تنام أسماء الناجين من الحياة. على سجلات الحجر حفرت أسماء الناجين من النسيان.
لكن مهمة الاسم أن يقودنا إلى حفرة وشيكة فحسب.
.
واﻵن صديقي هاني سنغير مواضعنا سأرد إليك سؤالك بسؤالك:
– هل ندرك ماهية الأشخاص من خلال تعاملنا معهم أم ننظر إلى أسمائهم؟
– من يشير إلى الثاني الاسم لصاحبه أم الشخص لاسمه؟
كنت ترجمت فينا سبق، مقطعا للشاعرة البريطانية من أصل هندي “نيكيتا جيل” تقول:
“في عِظامنا كالسيوم، في أوردتنا حديد، في أرواحنا كربون،
وفي أدمغتنا نيتروجين.
وما نحن إلا نجوم تحمل أسماء بشر”
هل حدث وأن قرأت من قبل أجمل من هكذا هوية!
في هذا الصدد يحضرني ما كتبت عن اسمي في وقت سابق:
في سماء اسمي
أقفاص ملوّنة تطير وتطير
عصفور الوحدة يُطلّ
من عيني
ينظر وينتظر
ثم يتكوّر بالدمع.
في صدري
رفرفة ريش من رماد
بخفّة قُبلة
كانت تهزّ، تهزّ
قفص الغياب.
وقلت لمن كان يمط شفتيه عند لفظي:
وأنت تنادي على اسمي،
اسمي الذي يقلب طاولة المشاعر.
لا تضبط الشفة بالضمة الحارقة
حتى لا تربطني إلى ساق صوتك.
صوتك الحار
كنبيذ فاسد بيد دالية.
الدالية التي تكتب بأغصانها
قصائد…
قصائد عشق فارغة.
ومن باب الدعابة أقول لمن يجد ثقلا في لفظ اسمي.
عليك باتباع الإرشادات التالية:
للتخلص من الوزن الزائد في اسمي
خذ سيجارة واكتب عليها “عنغوان”
قم بتدخيني مراراً
إن أردت حرق سعرات الحب.
في اﻷخير سأتورط بتقديم نصيحة والتي لن يأخذ بها أحد:
أرجو من الآباء والأمهات أن يتركوا قرار انتقاء الأسماء لصغارهم؛
لا تربطوا أسماء المواليد بأسماء المدن،
الأشهر والثورات.
لا تورطوهم أكثر
كل شيء مزيف
كل شيء
حتى أولادكم..
– إن الشعر والرسم بمختلف مذاهبهما وفلسفاتهما يلتقيان في مواضع وعند أخرى يختلفان، هلا حدثتني عن ذلك التضاد الأنيق بينهما؟
في الفن هناك تداخل بين أشكاله المتنوعة. فالشعر مثلاً لاينفصل عن الموسيقى والقصة وحتى التشكيل. وبداخل كل واحد منا براكين شِعر وعوالم فن. لا أعتقد بأن ثمة ما يفصل ما بينهما، سوى المزاجات والانفعالات التي تحول دون تقديم أحدهما عن الآخر.
لا بد لهذا الكائن الشعري من مساحة يتحرك من خلالها ومصدر طاقة يتغذى منه. كذلكَ الرسم يبحث عن امتدادات تشكله من ثم يتحرر من خلالها. هذا التلاقح والتفاعل يتم في مختبر اللاوعي. وبهذه العملية تتشكل البصمة الخاصة لكل فرد.
يقول سلفادور دالي:
《اللوحة هي الجانب الظاهر من الجبل الجليدي ﻷفكاري》
العوالم التي تظهر لنا بأبعاد أخرى تفوق مجسات العقل. وما يطفو على سطح الوعي هو ما يريد منا الفنان رؤيته، أما ما يخفيه عنا فهو بقية الجبل الجليدي (iceberg) بشكله المقلوب إذ لا يظهر منْه سوى ثلث حجمه الكلي.
العلاقة الوحيدة التي يصعب توثيقها
سقوط حرارة اللون على جسد الفكرة. والعكس ليس صحيحاً.
لا بد من تدريب دوري للحواس وتطويع الذائقة لما يخدمها ويشبع نهمها.
هنا يحضرني قول روبرت فرانك: 《يجب أن تتعلم العين الاستماع أولا
قبل ممارسة النظر》
يبقى الشعر العزاء الوحيد في هذا العالم، وممارسته تشبه نقل القطع الأثرية والتحف الفنية من مكان لآخر.
يقول جان كوكتو: 《الشاعر هو من يرغب في أن يظهر ضوء القمر في وضح النهار》
قبل كل شيء الشاعر الفنان مثل المعماري، يشيد بنايات داخل المخيلة لا يخفي الطرق المؤدية إليها. والفنان الشاعر يرتل أناشيد الألوان بأصابع عينيه.
وتقول لويز بورجوا: 《فعل الخياطة هو عملية ترقيع للعاطفة》هنا الترقيع يتم على امتداد سنوات.
يقول دالي:
《أقصى ما يمكننا أن نطلبه من المنحوتة هو أن لا تتحرك》
الإتقان حد الإذعان؛ اذعان العقل لوطأة الفن،
لن أستثني الجسد من هذه المعادلة الحارة، فالأداء الفني(La performance) مزيج من التشكيل والشعر، إذ يتشكلان فيما بينهما فيصبح الجسد لوحة ناطقة أو قصيدة ملوحة.
عن نفسي؛ وأعتبرني في هذا الباب؛ بذرة تدفع التراب طوال الوقت لتحدث شرارة في شريط الوجود ليس إلا؛ (تجربة خاصة)ﻷننا في حقل التجريب والتجديد. كنت قد اقترفت الرسم بالجسد، لم أجد أبلغ من أطراف جسدي لتحقيق طفرة فكرية وفنية.
في هذا الصدد خرجت بنتيجة مفادها أن: الجسد هو القماشة الوحيدة التي لا تكلف الفن تكاليف الاقتناء.
الألوان جاهزة بتدرجاتها، الأشكال ناضجة غير متطلبة.
تكفي بعض الأخبار لتحرك فرشاة الروح أعظم ضرباتها
على قماشة اللّحظة”
ولو قدر لي تلوين الجسد والروح
لجعلت الأول بلون الفضة،
والثاني بلون الكلمة.
سأسمح لنفسي صديقي هاني، بأن أضع بين يديك والقارئ، قصائد للفنان التشكيلي “پول كْلي” وهو القائل: “أنا واللّوْنُ شَيْءٌ واحد”
هذا المتورط في فنه ورطني من أول عمل حتى أخمص اللون.
ويبدو أنه تجاوز متاهة الرؤى وبلغ عتبة التكشف على هندسة الخيال.
ليس هذا فحسب بل زاوج مابين الشعر والفن، مؤكداً على أنه لا يمكن تحقيق أحدهما في معزل عن الثاني. وحاجتهما بعضهما البعض أكبر من كونهما عالمين منفصلين؛ بالعكس متداخلان حيث شكّلا بدورهما عالما فريدا لا يناسب إلا المتوحد بفكره وذائقته. لهذا أبدع في رسم الشعر وكتابة اللون.
هذه نبذة عن ذائقة “پول كْلي” الشعرية، من ترجمة الشاعر المصري (محمد عيد إبراهيم)
ماءٌ
أمواجٌ على الماءِ
قاربٌ على الأمواجِ
على طرفِ القاربِ، امرأةٌ
على المرأةِ، رجلٌ.
يتكلّم الذئب
يتكلّم الذئب، وهو يمضُغُ
إنساناً، يخاطبُ نفسَه
عندَ الكلابِ:
دلّوني، أينَ، إذن، هو ـــ
دلّوني، أين؟ إذن، ربّهُ؟
أينَ ربّه، بعدئذٍ…
ها هنا قد تراهُ
في الغبارِ تحتَ قدميكَ، ربّ
الكلابِ.
سترونَ وتعرفونَ
أنه واحدٌ، ذاكَ الذي
مزّقتهُ، ليسَ رباً قطّ!
فأينَ، إذن،ربّهُ؟
– أدري أني قد أرهقتك بهذا التنويم المغناطيسي، لكن أريد أن أتبين من صحة هذا الخبر، يقال إن من يصم أذنيه عن آهات القصيدة وهي تقلب مفاتنها في كل الجهات، فإن ما تيسر من لعنات ستصيبه وستسكنه أرواح الرافضين لهذا النداء، هل هذه خرافة أم حقيقة ملساء؟
تحضرني مقولة ڤرلين: 《لا تنتهي القصيدة أبداً، بل تُترَك》
تقريباً هذا ما يقع فيه الكاتب، بإجماع العديد منهم.
حسناً، دعني أخبرك بشيء
ما يحدث معي حالة عكسية تماماً.
ربما يستمتع، ويستمعُ الآخر إلى خطواتٍ القصيدةِ وهي مقبلة عليه، فيهرول إليها لتهيئة مايليق بإشراقتها، مهددة إياه بأن يعاملها بمنتهى الرقي والدلال كما يليق بها، وإلا توعدته بالإعراض والمقاطعة. فتجده -بكل ما أوتي- يرضخ لها منفذاً طلباتها.
-معي لا.
نتربص أنا والقصيدة ببعضنا. أباغتها كما تباغتني، تبادرني فأبادرها، تعرض عني فأعرض عنها لمزاولة مهام جنونية بديلة.
نحنُ في شباك طوال الوقت. نمارس نزواتنا كما نشاء، متى نشاء.
وإن لم أفعل ذلكَ بها فلن أعتبرني محرضة فعلية لإشعال فتيل الشعر.
سؤال يلح علي الآن، لماذا نكتب؟
ألا نكتب من أجل التخلص من الوزن الزائد للكآبة؟
ألا نكتب لتأريخ كل شيء؟
ألا نكتب من أجل فتح معابر الزمن ورمي نرد النبوءات في سماء الانتظار؟ ألا نكتب لتسريب الأصوات العديدة؟
ألا نكتب لبلوغ مرتبة من مراتب العدم؟
أكتب
وسكين المجاز تقطع مسافات من لحم.
أكتب
وذيل “كلب المخيلة” يمسح رصيف دمعتي.
أكتب
ودرج في لساني.
أكتب
وتتدافع من ثقب رأسي
ذبابة، هرة، حمار، قرد، زرافة،
وأخيراً نملة
تدلهم على
ثقب آخر، ثم تمضي.
أكتب
لأضرب الكذب الأبيض، الكذب الأحمر، والكذب الأسود
داخل خلاط الضمير.
أكتب
واقفة كبجعة،
تتمرن على الصراخ الأخير.
أكتب
ومعي فيل أزرق
أكل مرة نعامة بريشها الأسود
نام ولم يستيقظ منها.
أكتب
وأغير مواضع الأشجار
داخل رئتي.
أكتب
لا عن ثقب الأوزون
بل عن ثقب آخر
في لحمي.
أكتب
لأستقل الضباب،
ثم أنزل في أقرب حفرة.
أكتب
عن الحبل
الذي سحبنا من بلاطة الوجود.
أرأيت ما تفعله بي الكتابة يا هاني!
إن لم أدخن أفكاري أصاب بالاختناااااااااااااق.
كل هذا الشعر
يجرحني
إن لم أكتبه..
يا صديقي، أنا أزاول مهنة القلق والأرق بدوام كامل. لهذا تجدني أحاول التداوي بالحبر بدلا من أقراص تعطيل الكآبة، أو لتمديد عمر الملل أكثر في غرفة التفكير.
الورقة الفارغة
أيضًا
جثّة عالقة
في ذاكرة الانتظار.
بعينين فارغتين
أهز
جرس النور.
هذا صحيح، إلا أن الزمن داخل القصيدة يفتك بعظام الوقت.
كما سبق وأن أشرت، القصيدة “الشِعر اليومي” يصحو بصحونا وينام معنا على نفس الفراش. يشاركنا كل شيء حد اللاشيء.
بت أرى الشِعر في كل شيء، بإمكاني أن أجده في جثة ملقاة على ناصية الحدث، في تابوت يومئ لي بقصيدة منتهية الصلاحية، في وردة شارفت على مغادرة عطرها وهكذا. نحن نقدم أنفسنا للشعر على شكل مِحَنٍ متوالية، ليمنحنا بالمقابل حيوات بديلة أفضل من تلك التي خبرناها.
وَسْوَسَةٌ واحدةٌ فقط..
ويسري الكلامُ بعروقِ الكتابة.
إضافة أخيرة. القصيدة أيضاً تحتاج إلى توابل خاصة ويفضل أن تكون لاذعة وحارة. ثم تركها تنضج في فرن الدماغ على درجة حرارة المخيلة.
أقلِّب القصيدة في مقلاة العقل
أتبّلها بنبض ودمع،
لا حاجة لسكين وشوكة
فقط
امسح لعاب الحقيقة..
واشرب بعدها
كوب شمس.
فالقصائد تعرف أسرارا كثيرة.. أكثر من اليد التي تكتبها. وعلى القصيدة أن تكون جاهزة لصد مخالب الكلمات لا لمد أصابعها من أجل طلاء أظافرها باعترافات مراهقة..
– عنفوان كلمة أخيرة!
كلمة أخيرة
لن تكون هناك كلمة أخيرة، لأننا كبشر نثرثر بصمتنا طوال الوقت. ولا نصمت بموتنا، كلا.
أقلد الهواء
وأدفع بطواحين الفراغ..
كلما انتهيت من واحدة
تشكلت أخرى في غفلة من النص.
صحيح أن وحشيتنا تُغلّف هشاشتنا، إلا أن الموسيقى والفن ترمّم وجه الفظاعة.
أيضاً على الكلمات والألوان أن تحافظا على هرمونات الجنون، الطيش، والمراوغة…
حتى تخرجا إلينا في كل مرة كمارد من فانوس التفكير
لن ننتظر ساعتها تعويذة “شبيك لبيك”
ببساطة ستخرج كل واحدة بألعابها المسكونة بالصخب، الدهشة، والحركة اللامتوقعة