خمسة عقود مرت على رحيل أحد أهم وأعظم فناني القرن العشرين، بابلو بيكاسو، رائد ومؤسس الحركة التكعيبية في الرسم، الذي أحدث ثورة بفضل أفكاره المتجددة، حيث اعتبر مصدر إلهام في عالم أنماط الرسم، تجمع بين الجديد والأصيل، كما عرف كيف يدافع عن أفكاره وفرضها بطريقة فنية. وفي الواقع تبدأ قصة بابلو بيكاسو من مدينة مالقة، الواقعة في جنوبي إسبانيا، عام 1881، وقد تشرّب، في وقت مبكر من طفولته، حب الفن من والده، خوسيه رويث بيكاسو الذي كان مدرساً للفنون الجميلة. وفي مدينة برشلونة، نمت لاحقاً موهبة بيكاسو، حيث تابع هناك دروساً في الفنون ضمن المدرسة الإقليمية للفنون الجميلة، وكانت الدراسة عاملاً مساعداً لترقية موهبته الخارقة التي ظهرت منذ نعومة أظفاره، حيث قدم صوراً مرسومة من الواقع لأفراد أسرته.
غير أن ما أثرى تجربة بيكاسو بنوع خاص هو تلك الفترة الزمنية التي أمضاها في فرنسا، حيث أحتكّ بالعديد من الدوائر الفنية والأدبية، ما صقل موهبته الفكرية أولاً، والفنية ثانياً. وكانت الدائرة المحيطة به في باريس تشمل فنانين من أصحاب المواهب المتميزة مثل هنري ماتيس كبير أساتذة «المدرسة الوحشية» في الرسم، وخوان ميرو أحد أشهر فناني المدرسة التجريدية في دولة هنغاريا (المجر حالياً)، بالإضافة إلى جورج براك الذي كان السبب الرئيس في تعرف بيكاسو على الفن التكعيبي.
ويتساءل مؤرخون لسيرته الذاتية: هل كان بيكاسو تلميذاً غير نجيب، ولهذا فقد فضل التعبير عن نفسه عبر لوحاته المرسومة، ليكسب الفن بذلك عبقرياً لا مثيل له في القرن العشرين، حتى لو خسرت البشرية بذلك موظفاً تقليدياً، أو مهنياً اعتيادياً؟
وكانت واحدة من أهم مراحل حياة بيكاسو، تلك المعروفة باسم «المرحلة الزرقاء»، حيث غلبت درجات هذا اللون على لوحاته ورسوماته. وظهرت ملامح تلك المرحلة بسبب حزنه على موت صديقه «كارلوس كاسا جيماس»، رفيقه في مغامراته الباريسية.
المرحلة الوردية
وهكذا غلب الحزن حياة بيكاسو في تلك الفترة، وربما يكون هذا هو ما دفعه يومذاك للسير في طريق نوع من الحياة البوهيمية، ومع هذا كانت تلك التجربة الحزينة سبباً في خروج واحدة من أهم لوحاته التاريخية «لوحة دفن كاساجيماس». وفي تلك الفترة الزمنية من حياة بيكاسو، عرفت لوحاته ملامح البؤس والحزن والضياع الذي رآه في حياة المتسولين والمشردين والبؤساء. على أن امرأتين غيرتا مجرى سيرته، ورسمتا فيها علامات من حب الحياة، عوضاً عن اليأس والقنوط.
الأولى هي «فرناند أوليفييه» التي عرفها في عام 1904، وجعلت لحياته طعماً واضحاً، ما أنتج «المرحلة الوردية» في حياته الفنية، حيث تغيرت ألوان لوحاته من الأزرق إلى اللونين الأحمر والوردي، وقد اختار بيكاسو بعض أبطال لوحاته حينها من أجواء عالم السيرك وأبرزها لوحة «عائلة البهلوانات».
لوحة «غرنيكا»
وبالبحث المعمق في حياة هذا المبدع يمكن القطع بأن هناك روحاً إنسانية وإيمانية تتجاوز ضيق الطائفيات وتزمت الدوغمائيات. ويمكن اعتبار لوحة «غرنيكا» التي خرجت للنور عام 1937، إحدى أهم لوحات القرن العشرين، وقد حفلت برموز منها ما له صلة بـ«الأرواح الشريرة» مثل الثور!
وقد استلهم بيكاسو فكرة اللوحة – الجدارية من قصف الطيران النازي لقرية غرنيكا في إقليم الباسك شمال إسبانيا، وبطلب من الديكتاتور حينها فرانشيسكو فرانكو، خلال الحرب الأهلية الإسبانية. وقد أدان بيكاسو في تلك اللوحة الشهيرة أهوال الحرب وقسوتها.
وقصة بيكاسو وعلاقاته الأسرية بدورها غاية في الإثارة هي أيضاً، ولكنها تتسق وحياة فنان غير اعتيادي في تاريخ أوروبا والعالم معاً. ففي بدايات حياته، وبالتحديد في عمر السابعة والعشرين، تزوج بيكاسو من الراقصة والعارضة الأوكرانية «أولغا كوكلوفا»، بطلة لوحة «السيدة الباكية»، ورزق منها بولد سمّاه «بولو». وكانت كوكلوفا بداية زواجات بيكاسو، إذ ارتبط بعدها بزميلته الرسامة والناقدة الفرنسية فرانسواز جيلوت، ومنها أنجب طفلين آخرين هما كلاودي وبالوما. وإضافة إلى ذلك، رزق أيضاً من ماري تريز والتر بطفلة سمّاها «مايا». أما آخر زوجاته فكان مع الفرنسية جاكلين روكي، التي تزوج منها عام 1961، وعاشت معه 11 عاماً حتى وفاته، وكان لها تأثير مهم للغاية في حياته، ومن فرط حبه لها رسمها بما يزيد على 400 لوحة بورتريه.
نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية