رواية «النداهة»، إحدى روائع الكاتب والأديب المصري يوسف إدريس، صدرت عام 1969، تجسد إغراءات المدينة وكشف ضجيجها أمام أهل الريف، وتمثل إدانة لصخبها الذي اغتال براءة فتاة ريفية (فتحية) التي تزوجت من (حامد) حارس عمارة في القاهرة، لتنتقل للإقامة معه، ثم يقوم أحد سكان العمارة (علاء) باستغلالها ومراودتها عن نفسها، وعندما يعلم زوجها بالكارثة، يحاول قتل زوجته التي تقرر الهرب، لكنها تتوه وتضل طريقها في المدينة وسط الصخب والضجيج.
حاول الكاتب من خلال الرواية إبراز تداعيات الصدام الحضاري بين براءة الريف والمدينة المليئة بالقسوة والصراع، مشبهاً مجتمع المدينة المتحضر بـ«النداهة» التي تجذب إليها البشر، وتسجنهم داخل كتلها الصخرية ولا يستطيعون الهروب منها، بل ويستسلمون لها في النهاية، والرواية لم تهاجم المدينة بشكل خاص، بل تبرز الفوارق الضخمة والشاسعة بين الحضر والريف في أواخر ستينيات القرن الماضي، وتناقش أزمة الصدمة الحضارية من خلال بعض المشاهد التي تقوم بها (فتحية)، حتى من خلال التعامل مع أدوات الغرفة الجديدة، التي تعيش بها مع زوجها فور قدومها إلى المدينة، مقارنة بالبيت المتواضع الذي كانت تقطنه بالريف.
مع مرور الوقت وتصاعد الأحداث، تندمج (فتحية) مع جارها وأحد سكان العمارة (مهندس كمبيوتر) الذي يسحرها بتقنيات المدينة الحديثة، ثم يراودها عن نفسها فيما بعد، فيراها زوجها الذي يحاول قتلها نتيجة جريمتها الشنعاء، لكنها تهرب وسط أضواء المدينة لتواجه مصيرها الغامض، وتهيم على وجهها غارقة في الزحام، لتضيع حياتها مثلما ضاع شرفها.
«الندَّاهة» قصة جسدت اغتيال أضواء المدينة لبراءة أهل الريف، وتروي قيم القرية في مواجهة إغراءات وغوايات المدينة، وما «فتحية» إلا رمز، تسقط تحت عجلات الإغواء على يد شاب جذاب ووسيم، ومهندس ناجح وثري، دائم الركض خلف الجميلات، وكانت «فتحية» الريفية الساذجة إحدى ضحاياه، بعد أن سيطرت على عقلها حالة من الدهشة والانبهار بالمدينة وضجيجها وزحامها وما بها من تكنولوجيا، والتي ربما كانت تظنها خيالاً فقط، هي انبهرت بكل هذا ولم تكن تدرك أن هذا الزحام المبهر هو من ألقى بها في بئر الخطيئة.
ومما لا شك فيه، أن أعمال يوسف إدريس كانت انعكاساً للواقع المصري، حيث أبرز تركيب الشخصية المصرية في أعماله بلغة بسيطة عامية، فكانت شخصيات قصصه، تدور حول محورين أساسيين هما، شخصيّة المرأة باعتبارها عنصراً مهمشاً أكثر من غيره، فطوّع حياته للدفاع عنها وللكتابة من أجلها، بالإضافة إلى الشخصيات الرجولية وهي شخصيات، في معظم حالاتها، من الشريحة المظلومة في قاع المجتمع، وتمثل الإنسان المصري الذي يعيش على هامش الحياة، بكل مستوياتها.
وتناول الكاتب في رواية «الندَّاهة» فكرة تسلط الأفكار على عقل الإنسان، وما يمكن أن تنتهي إليه إذا ما انساق وراءها، وحاول الكاتب، أن يستعرض عدداً من سلبيات مجتمع الستينيات ومنها التصادم الفكري والحضاري، وبرع الكاتب بموهبته في ابتكار الأشخاص واختلاق الأحداث التي تبدو فيها سماتهم الخلقية والنفسية، وتتكشف طبيعة الإنسان على نحو يشهد له بالإبداع، ويضعه بين أكبر قصاصي القصة القصيرة في العالم.
أسطورة «الندَّاهة»
الرواية مستوحاة من أسطورة «الندَّاهة» التي تحملها ثقافات متعددة، وإن كانت في أثواب مختلفة، وتروي أن امرأة جميلة لا يعرفها أحد، تظهر ليلاً، وتشرع في النداء باسم أحد الأشخاص، فيتعرض الشخص على الفور بندائها إلى الفتنة، ويُسارع إلى تلبيته فاقداً للعقل والإدراك، لا يدري أنه يسير إلى حتفه أو على أقل تقدير إلى جنون لا يستفيق منه، تتخذ هذه المرأة الندَّاهة هيئات متنوعة، تُرى مرات في الحقول هائمة، ومرات هي عروس بحر تستقر على صخرة، وسواء كانت هذه أو تلك، فنتيجة الانصياع لإغوائها واحدة.
صارت المرأة الندَّاهة رمزاً لقوة خفيَّة طاغية، تستحيل مقاومتها إذا ما تمكَّنت من الضحية، قوة تجتذب إليها هؤلاء الذين لا يلتزمون الحيطة والحذر، ويتركون آذانهم لندائها وأجسادهم لإغوائها.. ظهرت تنويعات فنّية تقتبس روح الأسطورة، تارة تجعلها مادية ملموسة وتارة أخرى تستخدم الرمز والإسقاط، فمثلاً هي تظهر في قصة أناتول فرانس «تاييس» الراقصة اللعوب، التي يلحق بها رجل دين ليُقنعها بطريق الربّ وجمال الفضيلة، فتقنعه هي بطريقها، وتأخذه من حياته لحياتها الملوثة بالإغواء.
نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية بقلم الزميل سلطان الحجار