الكتاتيب هى النموذج الأول للمؤسسة التعليمية الأولى، التي عرفتها العصور الإسلامية , حيث أنها كانت وقتها بمنزلة المدارس الابتدائيّة في عصرنا الحاضر، وكان لها أكبر الأثر في الحفاظ على اللغة العربية وانتشارها بين جميع الأعراق المسلمة قديما؛
وكان أفراد المجتمع، كباراً وصغاراً، يخضعون له بالطاعة، ويتقربون منه، لِما لهُ من فضل عليهم، وكانت الأمهات يُرسلن مع أبنائهن الطعام إليه، كما كان الصبية يؤدون بعض الخدمات لبيت المُطوع، مثل جلب الماء من البئر، والاحتطاب والقيام بتنظيف بيته.
فقد كان المعلم أو الشيخ كما كان يلقب هو العارف بالمسائل الدينية والفقهية والرجل الصالح، الذي يُدير حلقات العلم في (كُتَّابه) يُلّقن صِغار الفريج أدبيات التعليم الديني ومهارات التهجي، ،
ويوّظف نفسه لخدمة الناس كافة في مجتمعه، ويقوم كذلك بالوعظ والهداية، وهو حجر الأساس والزاوية في العملية التعليمية، ويتولى بجانب تعليمه للصبية ، تربية الناشئة، وتهذيبهم وتأديبهم،
فكان شيخ الكتاب حينها مُلقناً مُحفظّاً يغرس العِلم في العقول، ومنابت الخير في النفوس، وإلى جانب مكانته الدينية والثقافية الفريدة، كان محبوباً مُهاباً، مُصلحاً بين الناس، يفض نزاعاتهم، ويرشدهم لما فيه الخير والصلاح، وهو همزة الوصل بين الحاكم والمحكوم، وأيضاً إمام المسجد، يُبصر المؤمنين بأمور دينهم ودنياهم، والواعظ الهادي، والمُعالج المُداوي للمريض، يقرأ له آيات من القرآن، وبعض الأحاديث الشريفة.
وكان الطفل يلتحق بالكُتّاب في عمر السادسة أو السابعة، ويبقى مُواظباً حتى يكبر ويشتد عظمه، ويكون قادراً على العمل لمساعدة والديّه، ونظراً لإنشغال الآباء في البحث عن لُقمة العيش أثناء رحلات الغوص والأسفار في البر والبحر، سعياً وراء الرزق، فقد كانت الأم هي من تتولى مُهمة تسجيل ابنها للدراسة على يد أحد
ومن ثم تأتي عملية التعليم بين تعليم الأمس وتعليم اليوم، لتعبر بجسر الذاكرة في هذا التحقيق، إلى ثقافة لا تزال نابضة بالحُب فينا ,
ففي العصر الحديث وبعد قيام الجمهوريات، حلّت المدرسة العامّة محلّ الكتاتيب، ولكنها أخذت جانبًا علميا أخر، ووصل الأمر ببعض البرامج التعليميّة في هذه الدول العربيّة والإسلاميّة إلى إهمال العربيّة مقابل الاهتمام المبالغ باللغات الأجنبيّة، ممّا هدّد العربيّة بالضياع.
فلمْ يعرف التعليم في الماضي تعقيدات العِلم الحديث، فكان التعليم في بواكيره مُتمحوراً بشكل أساسي حول «الكتاتيب»، كما ذكرنا آنفاً، وهو البوابة التقليدية التي عُنيت في جوهرها بتحفيظ القرآن الكريم والمُتون الدينية والأحاديث النبوية الشريفة، وفَكْ الحرف في تلقين أساسيات القراءة والكتابة، وأيضاً مبادئ الحساب.
وكانت كتاتيب القرآن الكريم لها أكبر الأثر في الحفاظ على اللغة العربية وانتشارها بين جميع الأعراق المسلمة؛ إذ كان طلاب العلم يتعلّمون فيها القراءة والكتابة العربية والقراءة الصحيحة للقرآن الكريم، كما كان يتلقّون في هذه الكتاتيب تعاليم الدين الأساسيّة، فيتعرفون على أركان الإسلام ومعنى الإيمان، ويتعلّمون كيفيّة الوضوء والصلاة، إضافة إلى ذلك كان الأطفال يستمعون فيها لجملةٍ من مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام.
مع الانتشار الواسع للمدارس بقيت جملةٌ من المجتمعات الإسلاميّة تحافظ على كتاتيب القرآن الكريم وتحرص على إرسال أبنائها إليها بعد العودة من المدارس الرسميّة أو في الصيف في العطلة المدرسيّة الطويلة،
فما سرُّ نشأة هذه الكتاتيب؟ كيف بدأت؟ وكيف كانت برامجها التعليمية؟ وما هو واقعها اليوم، وما واجبنا تجاهها لتعزيز وجودها واتّخاذه سبيلًا للحفاظ على لغتنا وديننا وأطفالنا؟
في خضمّ ما تعيشه أمّتنا من تقلّبات وتغيّرات، وانتشار الفتن في المجتمعات انتشار النار في الهشيم، فإنّ الإنسان المسلم يقف حائرًا وتائهًا متسائلًا: أين السبيل؟ وأين النجاة؟ لا يدري أيّ وجهةٍ يسلكها، وأيّ طريقة ينهجها، ثمّ سرعان ما يتجلّى له ذلك النور الذي لا ينطفئ، ويبصر وجهته التي لا يضلّ فيها، ألا وهي وجهة القرآن الكريم، فيسارع إلى رحابِهِ ليتفيّأ من ظلاله ويقتبس من أنواره، متدبّرًا قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) سورة المائدة: الآية 16 مدركًا أن لا شيء أعظم من كتاب الله تعالى، و عاملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلّمه
إن عدم إدراكِ أهمّيّة الكتاتيب القرآنية ودورِها في الحفاظ على الدين واللغة من قبل بعض المجتمعات يُهدّدُ مستقبلَها، ممّا يوجِبُ علينا التعريفَ الدائمَ بدورها في المجتمع والحرصَ على دعم مسيرتها.
إنّ الكتاتيبَ القرآنيّةَ شعاعٌ ثقافيٌّ مهمٌّ في المجتمع المسلم، فهي تُسهِمُ في الحفاظِ على اللغة العربيّة ونشر العلم، وتمسّك الناس بحبلِ الله المتين، فإذا عمّت وانتشرت هذه الكتاتيب في مجتمعاتنا بتلك المعايير التي سبق أن ذكرناها؛ فسيكثُر الخير والنفع والفضيلة ببركة القرآن الكريم، وينشأ جيلٌ قرآنيٌّ يحفظُ عُرَى الإسلامِ، فمن أراد الدنيا فعليه بالقرآن ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن، ففيه عزُّ الدين والدنيا، والحمد لله رب العالمين