لشعراء الشعبيون قديمًا، أي في زمن «اللواهيب» والأمية والترحال، كانوا يقولون الشعر حيًا على الهواء، وبعد ذلك يترك حفظه للرواة ومتوقدي الذهن. كان الشاعر غير معني بتكريس صوته في الذاكرة، أو بالأحرى ما كان يضع دعاية مدفوعة الثمن لتتناقل قصائده الأفواه والأجيال بل كان يعني بالشعر والموقف فحسب. ولأنه كان كذلك، فقد تكفلت القصيدة بنفسها لجودتها وصدقها بإبقاء الشاعر حيًا بعد مماته سنين عديدة. في ذلك الزمن كانت القصيدة تنفلت من الفم كما تفوح من الزهرة الرائحة فما تلبث أن تنتشر في الأنحاء متخذة لون المكان وشكله وطعمه بلا غش ولا فذلكة بلاغية ولا تهافت لغوي لإظهار تفوق الذات. كانت مشافهة تلتقي بالمجتمع فيحفظها ويقولها بنفس الطريقة ومع مرور الأيام تصل إلى الأجيال اللاحقة وكأنها خرجت للتو من التربة رغم ما تمر به من أطوار في الحفظ قد يختل فيها ميزان الشاعر الأصلي في القصيدة فتدخلها كلمات ليست من لفظه وإنما من اجتهادات الرواة. تكون القصيدة شديدة القرب من بيئتها ولصيقة للغاية بطبيعة الزمن والمجتمع والناس الذين عاصروها، بل تخرج إلى العلن متشبهة بهم ومتشكلة بزيهم وناطقة أمينة بهمومهم وشجونهم في شتى أحوالهم في الحرب والسلم وفي أوقات الرخاء والشدة. لذلك ليس غريبا أن نجد في قصائد الأقدمين رائحة الربيع لأنها قيلت في وقت الربيع، أو نجد فيها رائحة خصام بسبب أنها كانت وليدة لحظة انفعالية طغت فيها نفخة العنف وحس المجالدة بالعصا والمشعاب وأم خمس والقديمي وغيرها من أدوات التفاهم في الميدان. في الحب كانت القصيدة تخرق الجلد وتكسر الضلع من فرط شفافيتها العاطفية ومن شدة حزنها إذا لزم الأمر.
وجاء وقت استغنى فيه الشاعر عن الراوي، إذ سرعان ما اتخذ من الورقة راوية لا تزوغ به الأوهام عن صراط النص مهما تعاقبت عليه الأيام. وتفشت في حفظ الموروث مادة جديدة ما لبثت أن أصبحت أهم وسيلة لتوطين القصيدة ولم شتاتها وتخليصها مما كانت تعانيه الذاكرة عند الراوي من وهن ولبس وتغليب ظن على ظن وترجيح رواية على أخرى. فالورقة تحتفظ بالنص مباشرة بعد خروجه من فم الشاعر أو بعد تلقينها إياه من فم الراوي، فتصح عندئذٍ سلامة النسب إلى القائل الأصلي لدى الأول وترسو عند الثاني يقينية الرواية. لكن القصيدة التي أصبحت مدونة في كتاب أو على ورق تفقد مع سيولة الزمن خاصيتها التي كانت تميزها كقصيدة برية طليقة ومتوحشة تنتقل من فم إلى فم ومن راو إلى راو، حيث تستحيل كلمات ولغة فحسب. تستحيل قصيدة بصرية تقرأ وتنسخ كشاهد على شيء ما. شيء ما يشير إلى الماضي والزمن الذي أفل. أصبحت العلاقة بالنص عبر المكتوب وليس من خلال الطقوس الأولى التي تتوهج فيها القصيدة على فم الراوي وحوله يتحلق جمع من البدو، وثمة نار في الموقد، وثمة رائحة للقهوة وثمة حقيقة في النص. بوجود النص في ديوان انتهى دور الراوي وانطمست هيئته السحرية إلى الأبد، وحل محلها الديوان. بذلك صارت القصيدة أكثر نأيًا عن الصحراء وعوالمها الساحرة وطقوس نصوصها الشفاهية وانفعالات عناصرها الطافحة بالغموض. كانت تقال القصيدة، وكان الهواء يحملها بطريقته إلى الأسماع بدون تمييز. الكل كان يسمع القصيدة التي تحظى بالانتشار بدون عراقيل ولا قرارات ولا عنصرية ولا شعور بحساسية الطرح، والخوف من ردة الفعل. عبر الكتابة دخلت القصيدة في قوانين المسموح والممنوع وتشكل الرقيب بقرار من الدولة أو من المجتمع وتسبب ذلك في الوقوف بين الصحراء ورقابتها النزيهة وحكم القارئ على النص، وجعل الرقيب من نفسه البوابة الوحيدة التي تلج منها القصيدة إلى الآخر. أصبح الرقيب هو النص الفعلي في الواقع أما النص نفسه فكان الظل أو الوهم المسوق تحت مسمى أدب أو موروث. من هنا يحق للقصيدة أن تفقد علاقتها بالصحراء، تفقد علاقتها بالزمان والمكان، وتبتعد كثيرًا إلى عالم ليست تمت له بصلة. هل يعني ذلك خيانة لضمير الشاعر الأول أم أن الزمن في مفهومه الجديد من خلال مؤسسات المجتمع المعاصر وثقافة المسموح والممنوع تكفل بإزاحة الشاعر الأول أو تكفل بقتله في الرمال وتشويه ملامحه بواسطة شعراء جدد يقولون بناء على ما لقنوا من مفهوم عن الشعر أو عن الثقافة الشعبية الأصلية التي كان سيدها الشاعر؟!.
نجحت الورقة في حفظ النص، نعم، لكن الشاعر الأصلي انتهى وحل بدلًا منه أحفاده الراغبون في البروز أكثر من قول الحقيقة. وفي الواقع، كان أحرى بالشاعر الذي تطورت في عهده تقنية توثيق النص من ورق، ووسائط تكنولوجية حديثة أن يصبح أكثر صدقًا وأقل ضجيجا. كان أولى به أن يكافئ التقنية الحديثة بأفكار أكثر حداثة وبشعرية أقرب إلى حقيقة العصر لا تخون ضمير القول الحق في النقد، والمكاشفة، وتعرية الواقع بلا انحياز إلى ايديولوجيا أو شلة أو جماعة معينة…
زماننا هذا، ليس زمان «يا راكب اللي»، هذا صحيح، لكنه أيضًا ليس زمان تخدير العواطف عبر الإكثار من كلمات الحب، والإغراق في التشكيات من الحبيب الذي هجر أو الذي بدل أحبابه. لم يعد ممكنًا العودة إلى الصحراء من خلال شاعرها القديم، وكل الذي نقرؤه اليوم لايمت إلى الصحراء بصلة بل أكثره مزور ومقول على الصحراء ظلما وعدوانا … إن شاعر اليوم ليس غير «موديل» زائف لحقيقة شاعر قديم انتهى زمنه، وفي الواقع حتى هذا «الموديل» صار فجًا وغير مقبول بالمرة لسبب واحد هو أنه انفصل ثقافيًا ووجدانيًا وحتى انتماءً عن معنى الكينونة الأولى التي فطر عليها الشاعر الجذر، وهو معنى أن يحيا ويعيش كما تعيش من حوله الأشياء ولا يكون غريبًا عنها بقوله الحقيقة وتأكيده العيش ببساطة ومن أجل الآخر.