منصة المشاهير العرب مرخصة من الهيئة العامة للاعلام المرئي والمسموع السعودي , ترخيص 147624
واحة الإبداع

الشعر العربي الحديث بين الرمز و التطوير

13/ ديسمبر /2020
avatar admin
361
0

قراءة نقدية في ملحمة “العبَّاسة” للشاعر محمود حسن
 للشاعر والناقد سيد فاروق

الرمزية بين الماهية والأهمية
***********************
رَمزيّة ( اسم ):
مصدر صِناعيٌّ
: مَذْهَبٌ في الفَنِّ والأَدَبِ يَعْتَمِدُ الإيحاءَ والتَّلْميحَ بِرُموزِهِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الصُّوَرِ الحِسِّيَّةِ والأَساطِيرِ ، وَيَتْرُكُ لِلْقارِئِ مَجالاً لِلتَّصَوُّرِ والخَيالِ لإِكْمالِ الدَّلالاتِ الرَّمْزِيَّةِ كَما تُوحِي بِها
اسم مؤنَّث منسوب إلى رَمْز
العملة الرَّمزيَّة : عملة لها قيمة اسمية أعظم من قيمة محتواها المعدنيّ
الطريقةُ الرَّمْزيَّة : مذهب في الأدب والفن ظهر في الشعر أولا ، يقول بالتعبير عن المعاني بالرموز والإيحاء، ليدع للمتذوِّق نصيبًا في تكميل الصورة أَو تقوية العاطفة، بما يضيف إِليه من توليد خياله . (1)

لمَّا كانت الكلاسيكية كما يقولون : _ إن صح التعبير _ هي الشعر الذي لم يع ذاته، وهو ما أدركه الرومانسيون جيدا ” فإن الشعر الرومانسي تعرّف على نفسه كشعر”(2) ، غير أن الرومانسية تبقى فاتحة لعهود جديدة بتصوراتها الجديدة للأشياء، وقد أتت ببدائل مرنة، وأسست لأخرى أهم.

لم تكن الرمزية في الشعر العربي وليدة الشعر المعاصر ولا الشعر الحديث وإنما تمتد جذورها الى عصور متقدمة لكنها كانت إشارات رمزية في قصائد لبعض الشعراء وخاصة في الغزل والتشبيب وتطورت هذه لتكون أكثر انفعالا وأكثر وجودا في الشعر الصوفي وخاصة في العصر العباسي الثاني وما بعده وتكاد تكون اتجاها فنيا جديدا في الشعر العربي وخاصة في شعر الحلاج وعبد القادر الجيلاني وابن عربي وابن الفارض وغيرهم من شعراء التصوف (3)

الرمزية بوصفها اتجاهًا فنيّا برزت في الإبداع الشعري المعاصر ترتقي فوق موجودات الظواهر المادية المتناثرة في العالم الواقعي إلى مدارك الآمال والأحلام المنشودة في العالم المثالي، مستنجدة بالرمز بصفتها آصرة له تربط بين هذين العالمين “إن الرمز موضوع يشير إلى موضوع آخر لكن فيه ما يؤهله لأن يتطلب الانتباه _ أيضًا_ لذاته بوصفه شيئًا معروضًا” (4).
ومع الحداثة انتقلت قصيدة الحداثة إلى دائرة التركيب. وهكذا أصبحت كلا مركبا يتداخل فيه الذاتي مع الموضوعي ، والواقعي مع الرمزي والأسطوري، والخاص مع العام، والمتكلم مع المخاطب والغائب، والوزن مع الإيقاع، والوضوح مع الغموض، والغنائي مع الدرامي…” فالقصيدة الغنائية لم تعد المتنفس الوحيد للشاعر ، فكان على الشاعر أن يجد الآفاق ، والإمكانات الجديدة دائما وأبدا للتعبير عن نفسه في أشكال متباينة”. (5)

واستهلالا بهذا الكلام عن الرمزية ندلف إلي القراءة في ملحمة _ العبَّاسة _ للشاعر _ محمود حسن _ وهي من النصوص (الممسرحة) التي افتقدناها مذ مدة في المشهد الثقافي المعاصر.

العنوان :
***
وهو أولى عتبات النص _ العبَّاسة _ الذي يشير إلي الأميرة _ علية بنت المهدي _ أخت الخليفة العباسى هارون الرشيد الذي زوجها بوزيره جعفر بن يحيي خالد البرمكي أخو الخليفة في الرضاعة، حيث حرم هارون الخلوة بينهما فنقضا عهده وعلى إثر ذلك أنجبا طفلا فكان جزاء “جعفر” أن قتله الخليفة هارون .

وقد مزج الشاعر في المشاهد بين التاريخ والقصص القرآني والشخصيات والواقع في سياق متسق أجاد فيه الحبكة الدرامية متكئًا على تجربة الشعرية والبعد الثقافي والمرجعية الدينية والتراكيب اللغوية الجديدة توظف الحدث التاريخي فنيا وتحاكي الواقع المعاصر في آنٍ معا .

يقول الشاعر في المشهد الثاني :
جعفر
****

عفواً …
ما كنتُ لأجرأَ أن أمنعَ حضنَك
عن حضني
وشفاهَك عن شفتي
أن تحرقني النار بتلك الليلةْ
ونّبيذُك طاغٍ منْتَبهٌ
ويمامك حطَّ علي مملكتي
يَنْقُرُ في صدري يلتقط الحب من
الغابات ويمرح في الرِّئَةِ
غيبتك صاحيةً وصحوت غيابا
ما كان بإمكاني أن أمنع ماء
ينسابُ إلى قافيتي

لقد سلك الشاعر _ محمود حسن _ طرقا مختلفة لبناء الصورة الرمزية وابتكر أساليب عديدة لاستخدام الرمز، فجعل من الألفاظ المعجمية تراكيبا لغوية جديدة ” ونّبيذُك طاغٍ منْتَبهٌ ، ويمامك حطَّ علي مملكتي ، يَنْقُرُ في صدري يلتقط الحب من الغابات ويمرح في الرِّئَةِ ” وهو بذلك جعل من الكلمات عاملا في النص تؤدي دورا جديدا وتعطي دلالات مغايرة لدلالاتها المتعارف عليها ، وقد نجح بذلك في تصوير مشاعره العميقة المنصهرة مع الشخصية بعد أن أدرك حقيقة لا مراء فيها وهي أن اللغة _ بتراكيبها المألوفة ، والمستصاغة _ لا تقوى على مثل هذا العطاء الفاعل والمؤثر والثري ، وخطا بالصورة الرمزية ؛ لتصبح ذات كيان مستقل عن الواقع المحسوس، وبذلك تختلف الصورة الرمزية عن الصورة المجازية، سواء أكانت استعارية أو تشبيهية، كما اختلفت عن التعبير بالكناية التي ترتاد أحيانًا تخوم الرمزية المعتبرة تطويرًا لها فالتعبير بالكناية ترافق مع الأدب القديم، وسلك في شعاب التقليد ومدرسته التي اعتمدت على القوانين العقلية المحضة وعالمها الواقعي المحسوس . وقد أشار (إيليا حاوي ، إلى أن الكناية تباين الرمز في أنها مستفادة من الواقع فيما يبدع الرمز مَشاهده الحسية ، أو يتفطن في المشاهد الواقعية إلى دلالات غير واقعية وغير مبذولة، وإن كانت صادقة .

وينهي المشهد بحالة من حالات الروحانية المتبتلة فيقول :

لو أنك جئتِ إلَى المِحْراب بوقت
صلاتي منفردا
كنت أثِمتُ حلالا ما ألقيت البال
إلى العِظَةِ

وقد ركن الشاعر إلى الإرث الديني بإمكاناته الثرية ، التي ارتبطت في أذهان الناس بمواقف خاصة ؛ كالعبادة والإبتهال والحلال والعظة “، وهي عبادات استقرت في ذاكرة المجتمع ، وفي هذا الإطار يكمن الإبداع الرمزي في مقدرته على المزاوجة بين المواقف المعاصرة ، وبين ما يمكن أن يقتطف من المرجعيات الدينية والروحانية من مشاهد وعبادات وأحداث أو شخصيات ، تستطيع أن تتسرب إلي الوقائع المعاصر عن طريق الرمز .

ثم ينتقل بنا الشاعر إلى مشهد آخر للعبَّاسة :

ما أروعَ أن يَلْقَمَ ثديكِ يا أمُّ
رضيعانِ
والضِّحْكَةُ تملأُ عينيكِ
والضِّحْكَةُ تملأُ عينيكِ إذا جارَ
الطفلُ على الثاني
لكن إن شَبَّ الرَّجُلانِ
وارتكبَ الأولُ معصيةَ الذبحِ
الأولي
جاء غراب الأرض كطاووسٍ ليعلم
هارونَ طقوسَ الدَّفن ويفقأَ عين
الإنسانِ
وظللتُ أردِّدُ والسكين السَّاخِنُ
في عنقي
إن تبسطْ يدك الآن إليَّ لتذبحني
يَمْنعْني أن أسفكَ دمِّي من قلبكِ
ثديانِ
في كل زمان عرب بائدةٌ عربٌ
مستعربةٌ عربٌ عاربة
رومٌ فرسٌ وهنودٌ حمرٌ و فراعنةٌ
هِكسوس وتتار عربٌ ويماني
أديان شتي ومذاهب تعبد أصناما
زلفي والقاتل شيخانِ

وهنا يضع الشاعر محمود حسن الأم في رمزية موفقة جدا فيتكئ عليها ليعبر عن التدفقات الشعورية للعبَّاسة ويمرر سيف نقده ونقمته وغضبه على المشهد بأسلوب أدبي شيق فيكشف بهذا السيف المغوار عوار المشهد إسقاطا على الواقع المعاصر، مستعينا بالتاريخ الذى غمرته الفتن منذ بداية الخلق وقصة قابيل وهابيل في إسقاط رائع على واقع الأمة الذي استوطنته الأهوال فبين شيئا من حال الأمة من خلال استعراض حال الأخوين بعد ما تشاركا ثدي الأم وشبَّا وارتكب الأول أُولى الحوادث أو جرائم القتل، فكانت سُنَّة سيئة سار على نهجها الخليفة هارون الرشيد ثم أصبح حال أبناء الأمة الواحدة كذلك في عدة عهود .

وبهذا ينسجم الشاعر محمود حسن في ملحمته العبَّاسة مع تعريف الرمز الذي بيناه من خلال ما اتفق عليه الأدباء والفلاسفة بأنه شيء حسي معتبر بوصفه إشارة إلى شئ معنوي لا يقع تحت الحواس وهذا الاعتبار قائم على أوجه متشابهة بين الشيئين أحست بها مخيلة الرامز على أن يبقى الرابط بينهما واضحًا وبيِّنًا .

ثم يسترسل الشاعر في البناء الرمزي للعبَّاسة قائلا :

المشهد يا هارون الآن وبعد
دخول السيف إلى غِمدهْ
رجلٌ مَلكَ الدنيا وأخوهُ ذبيحٌ بين
يديهِ
والشعبٌ الأعزَلُ شعبانِ
وملابسٌ سودٌ وامرأتان

إن الشاعر الرامز محمود حسن يطلق طاقته الإيحائية ذات الخواص الجمالية الفعالة في مخيلة المتلقي من خلال القصص الديني والفلسفي الذي يغذيه بنوازع البحث، ويغريه بالتطلع إلى ما وراء الأكمة إذ لابد أن هناك خلف البناء الرمزي عالما آخر يختبئ تحت الظلال ، وإن اكتشافه بتأويل الرمز يقع في أحايين كثيرة من الصعوبة بمكان، وذلك نظرا للعمق الذي يسكن التجربة الشعورية، وعناصرها العاطفية التي لا يقيدها منطق أو عقل، ولكن التركيب الشعري باهتزازاته الموسيقية يوحي كثيرا للمتلقي بالمعاني التي تبثها الصور الرمزية أو تدل عليها ، ” إن جرس الأصوات والألفاظ والتراكيب الشعرية يلعب دورًا خطيرًا في الإيحاء بالمعاني التي تبثها الصور الرمزية، والغامضة التي لا تستطيع الصورة بتراكيبها اللغوية المألوفة أن تثيرها (6)

ينقلنا الشاعر إلى مشهد درامي من العبَّاسة فيقول:

صِرتُ الآنَ البائسةَ الأشهرَ ، والمكلومةَ ، والمصدومةَ ، والمدهوشةَ والمرتبكةْ
هل دمُنا العربيُ هو العسجدُ ، من فوقِ سماوات الله تنزَّلَ ، فامتازَ دمٌ ، وانحطَّ دمٌ ، وانسالَ دمٌ في حجرِكَ حينَ غَضِبْتَ ، وشقَّ طريقاً خاضَ بهِ من سلكَهْ
أشعلتَ النَّار بِجُرنِ القمحِ ، وبالحقلِ ، وأتلفتَ بيوتَ الفلَّاحينَ وعمَّالَ التَّرْحيلةْ
وقتلتَ الأشجارَ بِقَرْيَتِنا وذبحتَ القيلولَةْ
******************
لقد مزج الشاعر بين شعور العبَّاسة بالحزن وبين الدم العربي المستباح الذي أصبح وكأنَّه كنز مُنزَّل من السَّماء والكلّ يريد حصاده وحينئذ تشارك الأشجار والأوقات حالة الوجد وتستشعر المأساة ، فتذبح الأشجار وتقتل القيلولة .

هنا إبداع اللحظة المتحولة التي ما إن تتحول إلى ماض حتى تنتفي لتحل محلها لحظة الحاضر المتغير، غير أنّ هذا الحاضر لا يعاش حيث إنه مجرد هيولى المستقبل، أي من حيث هو مجرد إمكانية كما يقول “هايدغر”، وبهذا الفهم ينتفي الماضي من الوعي الحداثي كلية انتفاء جدليا لا يعني موته، بقدر ما يعني حياته بصورة جديدة مثلما رأينا مع ت. س. إليوت. كما ينتفي الحاضر مادام مجرد لحظة عبور .

كما ينتفي المستقبل مادام أفقا مشتهى تهفو إليه الذات الحداثية دون أن تصل إليه؛ إذ الوصول الحقيقي مرادف للموت أو الانتفاء. إن الوعي الحداثي ينطوي “على شعور حاد بالهوة بين الشاعر واللغة والعالم، وبين العالم والوعي، وهو شعور يتجاوب في حدته مع إحساس الأنا المحدثة بانفصال لغتها، وتمزق وعيها بين ما كان في زمان مات أو زمان يموت، وما يمكن أن يكون ابتداء كزمان لم يجئ) ” (7).

ثم ينتقل الشاعر بين المشاهد والشخصيات من يحي والد هارون و زُبَيْدَة والجارية بَرَّة ، في مزج ما بين العبَّاسة والرموز التاريخية والواقع المعاصر:

يَنْدَسُّ الحِبْرُ الأسْوَدُ في القرطاسِ الأبيضِ والتاريخُ الأسودُ في التاريخِ الأبيضْ
وتُباعُ الذِّمَّةُ والتوقيعُ يُزَوَّرُ والخَطُّ
بغدادُ يُباعُ التاريخ بها سوماريا آَكاديَّاً عبَّاسيّاً وحضارةُ بابلَ والآشوريَّةْ
و الماء بِدِجْلةَ و النِّفطُ
ويهجَّن عرق عربيُّ والسِّبْطُ
*………
لو أنَّكَ يا هارونُ ابنَ المهْدِيْ
لم تَفْتِنَ عقلكَ جاريةٌ من كِسْرى
ولَدَيْكَ زُبيدَةْ
ما سالتْ في القصرِ دماءْ
لو أنَّكَ يا جعفرُ لم تَفْتِنكَ امرأةٌ من ساداتٍ عربِيَّةْ
لو أنَّ العبَّاسةَ ظَلَّت عذراءْ
ما انهدَّ السدَّ ولا كَفَرَتَ بِلْقِيسُ ولا ذُبِحَتْ صنعاءْ
******

في تقديري أن هذا الشكل الجدلي الدرامي الذي مكن الشاعر من تغيير إدراكه الواقعي الحقيقي للعالم، وبهذا الإدراك ” استطاعت القصيدة الجديدة أن تحمل الرؤية التركيبية، والنظرة الموضوعية، وأن تبتعد عن الذات، وعن الوجود والواقع الموضوعي، بكل ما فيه من تداخل وتشابك ” (8) ؛ لتقترب منهما بصورة جديدة، ومغايرة. وبهذه الرؤية التركيبية تحولت القصيدة الحداثية إلى بؤرة للقول الشعري المتعدد الذي يتداخل فيه الوصف مع السرد والحوار، والتجسيد مع التجريد، والأنا مع الآخر، والوعي مع اللاوعي.

بيد أني أرى أنَّ الشاعر اكتشف في هذا الأسلوب الجديد وجها من وجوه التعبير الحداثي، وما به من قول شعري متعدد ومتغير، ومن التربع على عرش مملكة الشعر وممالك الأنواع الأدبية الأخرى.

إن الشاعر محمود حسن قد حقق الحداثة الشاعرية وهي في أبسط تعريفاتها الوعي المتحول بالتحول، فهنا بالضبط يكمن جوهرها الخلاق، الذي دفع الشاعر إلى البحث عن رؤيا شعرية متجددة تنشد التحول بمختلف مضامينه، واستخدام الرمز في المزج بين الشخصيات التاريخية والملحمة الدرامية والواقع المعيش .

وفي إطار نظرة الشاعر للشعر والإبداع في مشهد “أبو إسحاق” الشاعر أبو العتاهية يقول :
لا يمكنُ أن يزهدَ شعرٌ يا ولدي أو شاعرْ
الشعرُ هو الثورةُ والفعلُ الفاضحُ في الطُرُقاتِ العَامَّةِ والصُّوفِيُّ الفاجِرْ
واللامنطقُ والهذَيانُ وزنديقٌ صاحبُ نَرْدٍ، أثَّامٌ ومجاهرْ
ومقامٌ موسيقيٌّ ونَشَازٌ إيقاعيّْ سافرْ
الشعرُ عَصى موسى تَتَحَوَّل أفعى معجِزَةً ، فيُصَفِّقُ مأْخوذًا ، لكنْ لا يُؤْمِنُ، إنَّ الشِّعرَ هو الإيمانُ الكَافِرْ
ويحي .. يا ويحي
…………………..

حينَ تكونُ القَبْضَةُ ناريَّةْ ، والإرهابُ عميلٌ مُزْدوجٌ ، ويَظَلُّ البَصَّاصُ على عتباتِ البيتِ يُقامِرْ
لا يُمكنُ أن يَكبُرَ شعرٌ أو يبتَكِرَ الشَّاعرْ
……………
مسكينٌ منْ يستبدِلُ قوتَ بَنيهِ بمحْبرةٍ ثَكْلى
والحرفُ الصَّامتُ يشوي أمعاءهْ
وطنٌ لا يتَهَجَّى أحزانَ قصيدَتِه
يغرسُ سنبلةً لا تصنعُ خُبزًا ويكررُ أخطاءهْ
*
نعم هو الشعر الذي لا يعرف حدا للإبداع ولا سقفا للابتكار ، هو صوت الضمير الذي يؤرق الشاعر دائما والذي يحتاج لمناخ يتمتع بالحرية فهو عصى موسى السحرية، هو ثورة الثائر والإيمان الكافر .

إن الإنسان جبل على قول الشعر أو سماعه أو الاهتمام به فهو يمثل أكثر الفنون القولية تأثيرا فيه؛ فالشعر ديوان العرب، وهو كذلك حقا نتيجة لتعايش الإنسان العربي و ما أبدعه الشاعر العربي من شعر تمثلت فيه كل معطيات الحياة اليومية لدى قومه منذ عصر نشأته ، فهو حافظ للتاريخ والعلوم المختلفة ، ويمكننا أن نعتبره مصدرا رئيسًا يمكن الاعتماد عليه في التعرُّف على أحوال العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم مع طبيعته بالاحتفاظ بالرؤية الفنية إذ يمتاز الشعر العربي عبر كل عصوره المتلاحقة بعلاقة الإبداع الشعري بالنغم الموسيقي من خلال الإيقاع الشعري .

إن الشعر معرفة انسانية تحمل معطيات الرؤية والاحساس النابع من القلب وهذا الإحساس بالمعني هو المصدر الوحيد لمعرفة الأشياء في هذا العالم الذاتي أي أن الشعر الذي ينبثق من الروح اللاعقلية و اللاتصورية مضاد لكل تفسير منطقي .

إن الشاعر محمود حسن في ملحمة العبَّاسة اتخذ الاتجاه الرمزي ليكون تعبيرًا عن العلاقات التي تخلفها اللغة بين الحد العيني والتجرد المادي والمثالي وبين المجالات المختلفة للحواس والمشاعر الذاتية، فهو يدرك تماما أن الشعر هو الإيحاء لصور مثالية قد تتصاعد إلى أعلى محلقة باجنحة شعرية منبثقة من الروح والعاطفة المنبعثة من أعماقه وضميرة ، فالشعر هو الصنعة الجميلة ، والتدفقات الشعرية المنبعثة من إمكانية الشاعر في الإتيان بها من خلال تمازج أو تزاوج الحروف اللغوية مع بعضها بحيث تعطي نمطا أو نسقا موسيقيا معينا ونغما رائعا تبعا لإمكانية الشاعر ومقدرته على الخلق والإبداع وإمكاناته في اللغة لأنها طريق السمو بالروح نحو مسارات عالية ذات نغمات تنبثق من نفسية هذا الشاعر وعواطفه وإمكاناته التعبيرية التي هي السبيل للإيحاء بالرمز والتراكيب الجمالية للتعبير عما يعجز التعبير عنه الآخرون .

أرد الشاعر من خلال “العبَّاسة” أن يعبر عن مجموعة حالات متناقضة بما تمليه عليه نفسيته والواقع المعيش في الوقت الحاضر وتناقضات المجتمع الإنساني المختلفة المحيطة به، فيطلق عنان القصيد لتخرج برمزيتها العفوية حصيلة ثقافة انسانية ومشاعر مركبة ومعبره عن طموحات الذات الشاعرة ، في ابداعات خلابة وطموحة ،
لقد خرجت هذه التدفقات الشعورية في شكل مسرحية شعرية تعبر عن حقبة تاريخية ومضمونها في روح الشاعر فهي تمثل الصدى الذي نستشرف منه أسرار محمود حسن وآراءه ممتزجة بعواطفه وأحاسيه وثقافتة ، ونظرته للواقع من خلال العبَّاسة وهو شاعر مطبوع تتمثل فيه غزارة الثقافة في امتدادات عميقة وكأنه حظي بإرث الحضارات كلها ومطلع على ثقافات الأمم المختلفة والكتب السماوية، هذه الحصيلة الهائلة مكنت الشاعر من الصياغة المختلفة للجمل بتراكيب جديدة مبتكرة أعطت بعدًا جماليًّا للمشاهد التاريخية التي لم تنفصل في متنها الشاعري عن الواقع المعاصر .
إن العبَّاسة علامة فارقة في الشعر العربي المعاصر، ونقطة تحول فيه؛ فهي عصارة فكر لتجربة شعرية خصبة حافلة بالإبداع .

ونخلص إلي ما يلي :

أن الشاعر محمود حسن في ملحمة العبَّاسة لم يخلط بين الصورة الرمزية والصورة السريالية اللتين تتشابهان في إقصاء المنطق بمعايير الواقع المحسوس بل عمد في استخدام الرمزية بمفهومها الصحيح واتخد من الشخصيات الاجتماعية والتاريخية والقصص الديني ما يتناسب مع الواقع المعاصر .

وكذا لم يتحرر الشعر عنده من المنطق والقيم الأخلاقية وإقصاء الجمال بالتحليق به بعيدًا في عالم التجريد ليعبِّر عن فكرة أصيلة تغوص أحيانًا في اللاشعور بل إن شعور الذات الكاتبة عند محمود حسن منصهر مع الواقع، وقد استطاع التعبير عن هذا الشعور باستخدام الرمزية متكئًا على التراكيب اللغوية المستحدثة من معجمه الخاص في دلالات جديدة متعددة مغايرة لما هو متعارف عليه .

وقد أثبت الشاعر في ملحمته أن الرمزية فن من فنون التعبير في الشعر الحديث والمعاصر وقد نجح في أن عبّر عن عواطفه وشعوره وما يختلج في أعماق أفكاره ونفسه وذاته بالرمزية أفضل تعــبير في إسقاطه على الواقع وما آل إليه حال الأمة العربية .

لقد ربط الشاعر محمود حسن بين ظاهرة الرمز والرؤية الجديدة التي طبعت ولازمت القصيدة المعاصرة وبين النص الشعري المعاصر بحيث يبقى منفتحا على كل الاحتمالات المعرفية والحدسية والخيالية – إن صح التعبير- التي تجمع بين تناقضات الرؤية ومحاسن اللغة وتعدد الرمزية بأشكالها المختلفة وفقا لمقدرة الشاعر وتوجهه .

ارتكز الشاعر محمود حسن في ملحمة العباسة على حساسية حضارية واسعة أساسها البعد الثقافي والمعرفي اعتمادا على عدة رموز تاريخية دينية اجتماعية، في طريقة للبحث عن اللامحدود وعليه اصطبغت الرؤية الشعرية لديه بلهجة شديدة الرمزية والشاعرية معا بحيث أصبح النص الشعري لديه يتسم بالمفاجأة والرفض؛ فالقصيدة تمرّ بإيحاءات طويلة وإيماءات تتخذ الإبداع طريقا تفجره الدفقات الشعورية في جميع الاتجاهات كيفما شاءت .

وفي تقديري أن الشاعر محمود حسن تميز في انتقاء الرمز وانتقاء الكلمة المعبرة ذات المغزى الذي أميل إليه وهو _ الرمزية الواضحة _ أو القريبة المفهومة للنفس، بحيث يشعر بها المتلقي بوصفها نوعًا من التمثيل البلاغي أي الرمز القريب إلى نفسية الشاعر في حدود معرفة المتلقي وإن كان الرمز في ظاهره مبهما إلا أن الشاعر يعمد إلى ايجاد أكثر من ضوء ليكشف الإبهام والغموض كي لا يبقي مجال للعتمة، بل يرفع عنه الشراشف ليصبح الرمز واحة من النور الساطع على الواقع المعاصر .

والجدير بالذكر أن الرمز الذي استخدمه الشاعر محمود حسن وضع المتلقي أمام ما يعنيه الشاعر بالفعل، فلا توجد فجوة مبهمة في إيجاد ملمس يحل رموز المعاني في بناء القصيدة واللغة المستخدمه، أو المقاصد المبتغاة إسقاطا على الواقع .

وهنا تكمن الفسحة التي يحسن الشاعر هندستها في بناء النص الشعري بما أوتي من قدرة لغوية وشاعرية فذة وينفذ من خلالها إلى نفسية القارىء أو المتلقي وحتى الناقد والتأثير فيه إيجابا ، وسحبه إليها سحبا جميلا رقيقا يحقق طموحات الذات الشاعرة التواقة إلى الرفعة والسمو من خلال استخدامها الرموز التاريخية والدينية والاجتماعية التي هي بالفعل محفورة في وجدان كل من الشاعر والمتلقي والناقد على حد سواء .

الهومش والمراجع

معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي .
)- جون كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي، ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، ط 1، س 1981، ص 21 .
مقالات فالح الحجية _ عبد القادر الجيلاني كنموذج من الشعر الصوفي _
(أوستن وارين- ورينيه ويليك) ، نظرية الأدب .
– عبد الوهاب البياتي: عن مقال “مقاربة نقدية في البنية الدرامية والسردية في شعر عبد الوهاب البياتي. مجلة عالم الفكر، ع:2 ،مجلد30، سنة:2001، ص:167
دكتور عدنان حسين قاسم ، الرؤية التقديرية للبلاغة العربية
ـ جابرعصفور: معنى الحداثة في الشعر المعاصر. مجلة فصول:ع 4 ، ج2، سنة 1984 ، مصر ، ص:51.
محمد جابر عباس: مقاربة نقدية في شعر عبد الوهاب البياتي ، مجلة عالم الفكر، ع2 ، مجلد 32 ، س:2003، ص:162 ..

عن الكاتب : admin
عدد المقالات : 11326

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.