كتب إبراهيم موسى النحَّاس
حين يكون المبدع مثقفًا فهذا بدوره يحمل منتجه
الإبداعي بطاقة تنويريةإيجابية خلَّاقة فما بالنا إذا كان
المبدع مثقفًا وفيلسوفًا في نفس الوقت،
بل يُعتبر واحدًا من الذين كرَّسوا منتجهم الفكري لنقل الفلسفة من
البُعد التنظيري حبيس قاعات الدرس وأرفف الكتب بالمكتبات ليخرج بها
إلى رحابة الواقع المعيشي لتخدم الفلسفة قضايا واقعنا بكل تداخلاته
بل وتناقضاته أحيانًا، هذا هو الشاعر قاسم المحبشي في ديوانه الجديد
الذي حمل عنوان ((ديوان الحياة والفرح))، وفيه يقدم لنا رؤية تحمل
أبعادًا تنويرية تتجلى من خلال إيمانه بمسئولية المثقف من ناحية،
وتعظيم الجانب الإنساني من ناحية أخرى.
هذا الجانب التنويري نلمسه في مطلع الديوان، حيث نجد توظيف
الحِس الصوفي مع الفلسفة الكافكاوية العدمية للوصول إلى نتيجة أن
الحياة لا تستحق الخلافات ولا النزاعات حولها، ليعلن الشاعر في
النهاية انحيازه لكل ما هو إنساني فيقول في قصيدة (يا مولى العيون الزرقاء):
((إنساني أنا إنساني/ لا جني ولا روحاني/ ابن آدم وأمي حواء/ سُبحان الذي
سوَّاني/ كل الناس عندي إخوة/ والإنسانية إيماني/ دنيا فانية ما تسوى لي/ كل من عاش فيها فاني/ لحظة عابرة نحياها/ فرصة ما لها شي ثاني/ ضاقت بالجميع الأزمة/ والموت استوى مجاني)).
من هنا يكون الاحتفاء بالطاقة البشرية التي هي عماد أيَّة أمَّة، فيمزج بين البُعد التنويري والبُعد الإنساني في القصائد التي كتبها للأولاد والأحفاد، إيمانًا منه بقيمتهم له على المستوى الإنساني، تلك القيمة التي لا تقل عن قيمتهم باعتبارهم مستقبل وعماد الوطن، ليمتزج ما هو تنويري بما هو إنساني في نسيج شعري جميل، فيقول في قصيدة ((بطاقة تهنئة للأحفاد)): ((مبارك الفوز للأم التي تعتني/ والأب ذي سوس المبناء بعلمه بني/ العلم يبني بيوت قط ما تحلمي/ وأنتم البيت عامر بالأساس ابتني/ الجد استاذ والجدة ثمرها دني/ جد في الصين أسس مدرسة للبني/ يحفظكم الله اشبال الأسد عادني/ في الغابة الوحش بالفئران ما همني/ ما خفت إنسان مثلي قط أو ذلني/ ما عاش من رام تهديدي ولا راعني/ أمنت بالواحد الرحمن له بانحني/ والرأس قط ما احتنى لأي كائن سَمِي)).
من هنا يكون غياب وفقد الآخر بمثابة الأزمة، فيقول في قصيدة ((يا مَن سكنت القلب)): ((يامن سكنت القلب وحدك ولا غير/ جميل يا باهي الوجن والوسامة/ يا حوري العينين نوَّرت تنوير/ طرفك أصاب القلب وانشب سهامه/ في غيبتك يا حياتي كيف بأصير / غاب القمر والليل خيَّم ظلامه / استحضرك بالحلم بالطيف تحضير / أنت الفرح والنور والابتسامة/ لو يوم أو يومين أصبر فلا ضِير / وكل ساعة من غيابك بعامه / على بعادك صابر القلب تصبير/ يا مهجة الخاطر ومولى الفخامة / مكبّل الجناحين عل الوعد بأسير / إلى إلى لقاء المحبوب قلبي هيامه / عطشان أنا والنار توقد في الكير / يوم اللقاء عندي بيوم القيامة/ سافر وعود يا حبيبي على خير/ يحميك ربي من عيون اللئامة)).
من الجوانب الإنسانية في الديوان أيضًا الاعتداد بالمكان، ولو كان شاعرنا روائيا لكان الأحفاد مع مدينة عدن بمثابة البطل الرئيس في رواياته، فيلعب المكان دورًا محوريًا في رؤية الشاعر بين مصر حيث الإسكندرية والمنوفية وبقية مدنها، وبعض العواصم العربية، لكن تبقى حبيبة الروح (عدن) مدينة المدن وقبلة الروح وباعث شوق الشاعر الذي بقدر سعادته بالنوستالجيا والحنين لذكريات طفولته وشبابه بها بقدر حزن على ما آلت إليه الأوضاع فيها، فيقول في قصيدة (لكِ يا عدن
حنِّيت): (( لكِ يا عدن حنِّيت وأشواقي تِحِن / ما حنَّت النوبة على زهر الربيع / كلما ذكرتك سال دمعي علوجن/ أنساك كيف أنساك يا الحصن المنيع ؟/ يا مرتع أيامي وحبي والسكن/ أضنتني الغربة كما فطم الرضيع / في خور مكسر والمعلا لي وطن/ وفي كريتر موطن الحسن البديع/ أرض البريقا حيث مرساة السفن / مأوى الظباء والريم والهام الرفيع / في صيرة الأمواج تشكو للزمن / من ما فعل عفاش وأحفاش القطيع / قهري على حورية البحر الفنن / الخوف خيَّم في رُبا صيرة فظيع / كانت جميلة مَن دخل فيها أمِن/ واليوم تسكنها الفجائع كالبقيع ))
بهذا العمق الإنساني أصبح لا يقاسم عدن كل هذا الحب سوى الأولاد مع الأحفاد وقبلهم تلك التي إذا ضاق العالم بالشاعر فإن صدرها يتسعه، تلك العظيمة التي جعل لها وحدها كل نبضات القلب، إنها الأم التي قال عنها في قصيدة ((أمي الحبيبية أمي)): ((لأمي الحبيبة أمي/ كل صباحات عمري / أمسي ويومي وغدوي/ لمن حنوها بالحبيب / الهني أرضعتني / لصدر إذا ضاقت الأرض بيّ يتسعني/ لعينين أن غبت عنها لحظة / بتسأل عني/ لها وحدها / كل نبضات قلبي وروحي وعقلي)). ومن هنا نجد أن تعظيم المرأة يأخذ مكانه على مدار الديوان بسبب البعدين الإنساني من ناحية والتنويري من ناحية أخرى.
وإذا انتقلنا إلى الجانب الفني نجد تركيز الشاعر على سلامة وتاغم البنية الإيقاعية لتأتي هادئة متناسقة مع رؤية القصيدة، ولنتأمَّل معًا توظيف الشاعر لإيقاع بحر ((الرَّمَل)) وتحويل بنيته الإيقاعية الراقصة إلى إيقاع هادئ يتناسب مع الدور العظيم للمرأة كما يتناسب مع الحزن على المصابات بمرض سرطان الثدي حين يقول في قصيدة (ما أخطر داء السرطان): ((قف بنا يا أيها الشادي ثواني/ إنها حواء رمز للعطا/ والسجايا والنقا والعنفوان/ من أقامت عرشها فوق الذرا/ كم أضاءت في الدجى جيد الزمان/ إن يكن في الشعر عقد صغته/ في هوى حواء عقدٌ من جمان/ إنها أمً وأخت وابنه / حينما هزت بشكواها كيان/ هي نصفي بل أنا كلي لها / موطني الأول ونبع للحنان)).
كما نجد توظيف المونولوج أو الحوار الداخلي من أجل التعبير عن الشعور بالتشيؤ واغتراب الذات الشاعرة، فيقول في قصيدة (يا عاشق البحر): ((الجهل حولي محيطات تحاصرني/ والليل دامس ونور الفجر ما بانا / لو هزني الشوق والمحبوب نادني/ أسرجت حرفي شراعًا صرت ربانا / يا غربة الروح والأصقاع موحشة / لاهتانت الأرض عمر الحُر ما اهتانا / بين المنافي تهيم الذات صادحة/ تُغرِّد الفقد للأوطان أحزانَ)).
ملمح فني آخر وهو توظيف الطابع القصصي الذي نلمسه في قصيدة (أحببتها طفلا مراهقا بالهوى) حين يقول: ((وحملتها في كُلِّ أرضٍ أحِلُّ بها / أم البين وخواتهم ما مثلها / شريكة الزمن الجميل المشتهى/ طفلان كنا حينما عانقتها/ مرَّت بنا الأيام لم نشعر بها / روض من الأشواق ينثر اسمها / القاف قلبي خافق في حبها / والباء بنت الحيدري مغرم بها / والواو وعدي إنني ما خنتها / واللام لمَّت شملنا بحنانها)).
وعلى مستوى المعجم الشعري فقد استخدم الشاعر اللهجة اليمنية التي تخلو من الابتذال والاستسهال بل وتقترب في قوتها من اللغة العربية الفصحى لنجد قصائد أخرى كاملة باللغة الفصحى مِمَّا جعل الديوان يتسم بالتنوع على مستوى المعجم الشعري، تنوع يعكس قوة الشاعر وثراءه في التعامل مع اللغة، في قصيدة جعلت التركيز على المعنى يتفوق في مدى الاهتمام به على العروض الخليلي أحيانًا، ولنبحر معًا في عالم الديوان لنكتشف المزيد.