قصة قصيرة للكاتب محمد البنا – مصر
لم أكد استلقي على فراشي استعدادًا لنوم هادئ، بعد نهارٍ شاقٍ أجهد جسدي أيما إجهاد، إذ برنين هاتفي الجوال يطرق رأسي بلا
هوادة، أمسكت به وألقيت لمحةً خاطفة على شاشته المضيئة، بغية تبين هوية هذا المتصل المزعج، انزعجت وانقبض قلبي بشدة
لحظة أن تبينت أنّ المهاتفة من باريس، وأنّ المتصل أنا
– خيرًا..ماذا حدث يا فرانسوا؟
– محمد..أنا أحتضر، لقد أخبرني الطبيب أنها ساعات قليلة ويُقضى الأمر
قالها بصوت متهدج ونبرة واهنة، وسكت للحظة ثم أردف في رجاء
– تعال الآن، استقل أول طائرة يا محمد، ولا تنس أن تتصل ب شنتو، فقد فشلت كل محاولاتي للإتصال بشنغهاي
كان كل ما يشغلني ويرهق ذهني، وعيوني متعلقتان عبر نافذة الطائرة بركام من السحاب القطني الكثيف أسفل جسم الطائرة، كيف
؟..كيف لم أشعر بي؟.. لم أمرض!..لم تنتابني غصة! ..وفجأة..هكذا أحتضر فجأة!!..كيف؟..كيف غفلت عن نفسي؟!
جلسنا – أنا وشنتو – على طرفي سريره، كان لايزال يعاني من غيبوبة طارئة، هكذا أخبرتنا زوجته وهى تبكي، بعد أن تعافت من
تداعيات صدمتها حين رأتنا.
أمسكت بكفه اليسري بحنو، واحتضن شنتو يده اليمنى بين كفيه، ودمعتان تطفران من عينيه، فتح عينيه ونظر لكلينا وابتسم، ثم
همهم بكلمات تناثرت حروفها، فهمنا منها أنه يرجونا الاقتراب من شفتيه، فدنونا.
ابتلع ريقه بعد أن هدأت نوبة عطس داهمته فجأة، ثم همس ونحن بالكاد نسمعه
– لا تحزنا..إنه الأجل ولا قدرة لنا في الهروب منه، أزفت ساعتي، وحان وقت رحيلي، لذا سأخبركما بالسر الذي أخفيته عنكما لأربعين
عامًا مضت
– سر!..أي سر ؟!..نحن نعرف كل شيء يخصنا، حتى أدق تفاصيل حياتنا رغم فوارق السن بيننا..أي سر يا فرانسوا؟!
– أنتما فعلًا تعرفان كل شيء عني، وأنا أعرف كل شيء عنكما، ولكن هذا السر..لا..فقد جاهدت ألا أحدث به نفسي حتى لا تكتشفانه
– قل إذًا..ما هو ؟
طلب من زوجته أن تضع وسادة خلف ظهره، بينما نحن نساعده للنهوض قليلًا حتى استقام ظهره الى خلفية السرير، حينها أشار
لزوجته بمغادرة الغرفة واحكام غلق الباب خلفها
– تعرفان أننا نحن الثلاثة روحٌ واحدة، وهى كما تعلمان حالة نادرة في عصرنا هذا، ولا يعلم عنها شيئًا سوى ثلاثتنا، ولكن حدث – منذ
أربعين عامًا حين زرت مقبرة العظماء – أن اكتشفت أنني كنت ملكًا في القرن الرابع عشر، وأنّ الجثة المسجاة تحت التابوت الأبانوسي
جثتي، وأحجمت أن أخبركما بذلك وقتئذ لسببين أولهما أنك يا محمد كنت لا تزال طفلًا لم تتجاوز العاشرة من عمرك، وكذلك أنت يا
شنتو كنت لا تزال رضيعا
– والسبب الثاني يا فرانسوا؟
– السبب الثاني كان خشيتي أن تسخرا مني أو تظنّا أنّ بي خبلاً أو مسّني جنّي
حاول شنتو أن يكتم ضحكته- فالوقت لا يناسبه قهقهةٌ أو مزاح- لكنه لم يستطع، مما أثار استغرابي بل واستنكاري أيضًا، واندهاش
فرانسوا، الذي لم يسطع أن يخفي اندهاشه رغم ما يعانيه من سكرات الموت
– وأنا أيضًا أخفيت عنكما سري الذي علمته عندما كنت رضيعًا، ووعيت كنهه عندما بلغت الحلم
– سر يا شنتو أنت أيضًا!..قل..قل ما هو ؟
– حلمت أنني كنت جنديًا مغوليًا في الجيش الذي أعده القائد العظيم جنكيز خان في القرن السابع الميلادي
كتمت ضحكتي وتصنعت الدهشة مما قالاه آنفا، ولم أخبرهما ما حدث لي حينما كنت في السنة الرابعة الإبتدائية، وصحبتنا مدرسة
التاريخ في رحلة مدرسية إلى المتحف المصري.