صحيح أن قمّة العُلا طوت صفحة الأزمة التي استمرت ثلاث سنوات ونصف السنة، لكنَّ المُستفيدين من القطيعة بين الأخوة لم يعدموا وسيلة للإبقاء على شبكة مصالحهم بين قطر من جهة أو مع الدول الأربع من جهة أخرى، وبالتالي فهؤلاء يسعون اليوم إلى الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الاستثمار في الفوائد والإبقاء عليها.
دول وأحزاب وجماعات، بل حتى رجال أعمال وتجار، تربَّحوا من الأزمة، وهؤلاء لن يقبلوا الخسارة بسهولة، ففتح الحدود والأجواء، وعودة تدفق السلع والبضائع بين الدول الخمس، لن يكون مريحاً لتركيا، وكذلك إيران، اللتين لاتزالان تعملان بقوة على منع تطور المصالحة إلى علاقات طبيعية وأخوية، كما كان عليه الأمر قبل الأزمة.
حتى جماعة “الإخوان” التي عملت على استغلال الخلاف لتمرير المزيد من أفكارها ومشاريعها وتسويقها في أكبر مساحة ممكنة ستعمل بكل قوتها لمراكمة رصيدها، وستقاتل بكل أسلحتها في هذا الشأن، ولهذا فإن المرحلة اليوم أقرب إلى فترة النقاهة التي يمرُّ بها المريض، حيث تصبح العناية ضرورة أكثر من السابق.
ما تحقق في قمة العلا هو ولادة جديدة لـ”مجلس التعاون” الخليجي، ويحتاج إلى عمل شاق كي لا يُصاب بانتكاسة، والفرحة الكبيرة التي استقبلت بها شعوب دول المنظومة المصالحة هي تعبير عن حقيقة تختلج في صدر كل خليجي، وبالتالي ليس سهلاً العودة إلى الوراء، ولهذا وعملاً بالمثل المصري: “داري على شمعتك تقيد”، لا بد من الحرص، وعلى أعلى المستويات، كي تتوهج شعلة المصالحة أكثر، ولذا فإن أي محاولة من الخاسرين من هذا الأمر لا بد أن تُجابه بحزم وعزيمة أكبر مما مضى.
طبيعي أن تحدث بعض التمايزات في المواقف، أو المحاولات الجادة لتخريب هذا الإنجاز الكبير، وهنا تكون المسؤولية الكبرى على عاتق قادة المجلس، الذين عليهم الحذر بشدة في التعاطي مع تلك الأحداث، وأن يعملوا لمنع تحققها، أكان عبر الاتصالات المباشرة أو اللقاءات الثنائية، أو من خلال تفعيل شبكة الأمان الديبلوماسية، إضافة إلى زيادة التعاون في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية وتبادل السلع وتسهيل تنقل الأفراد، كما كان الأمر قبل العام 2017.
لا شكَّ أن الدوحة بقيادة الأمير تميم بن حمد، ليست كما كانت قبل خمس سنوات، والرجل يُدرك تماماً أهمية العمق الستراتيجي لبلاده، وهو من القادة الشباب الذين يعملون من أجل المستقبل على أساس التكافل والاتحاد في وجهات النظر بين عواصم المجلس، وليس التغريد خارج السرب، وأيا كانت الأصوات النشاز التي تصدر من هنا وهناك عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي هدمت أكثر مما عمرت خلال السنوات الثلاث ونصف السنة الماضية، إلا أن ذلك لا يجب أن يتحوَّل شراراً يُعيد إشعال حريق الخلاف، لأن “مُعظَم النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَّرِرِ”، كما قال المتنبي، ولأن هذه المصالحة مُحارَبة فإن التعاطي مع ما يُهددها يجب أن يكون بأقصى درجات الصراحة والمُكاشفة؛ حتى لا نعود في يوم من الأيام إلى ترديد قول المتنبي ذاته: “لا مرحباً بسرور عادَ بالضررِ”.